السعار الذي يتعرض له الشيخ راشد الغنوشي بالقطع ليس بسبب أخطائه ولا بسبب أخطاء حزبه ... لا يمكن أن ينساق وراء هذا الزعم إلا غرّ ... ولا يمكن أن يرى ذلك إلا من به رمد ...
لا تسوى تقديرات الشيخ راشد وتقديرات حزبه الخاطئة مثقال حبة، أمام ميزان الأسباب العميقة التي تقف وراء هذا الكيد الأسود الذي يُكاد له. تستطيع أن تكشف ذلك في صريح القول، فضلا عن لحنه الذي تعج به أبواق الدعاية السوداء المسموعة والمرئية والمقروءة... بدون مبالغة.
ينطق بذلك "كبارهم" و"أراذلهم". وكلما تجاهلهم زاد هياجهم ... وكلما ارتفع عن سفالتهم غاصوا أكثر في نذالتهم ... وكلما نجح في إفشال خططهم، فقدوا ما بقي من صوابهم.
الغنوشي يحاسب على صموده، ويحاسب على صبره ويحاسب على شموخه وإبائه. الغنوشي لا يواجهه ذباب الفيسبوك، ولا شراذم الأحياء الشعبية، ولا مرتزقة الصحافة الصفراء وإعلام العار .... كل أولائك مجرد أدوات "تهويش" ... من يواجه الغنوشي ويكيد له بالليل والنهار، هي غرف ما فوق قُطرية، تَستعمل كل ما بيدها من إمكانيات جبارة لإيقاف زحفه ولإخماد صوته ولشل تدبيره.
مهلا أيها "الدراويش" الذين تتعاملون مع الغنوشي بسذاجة، وتقيسون تحركاته بـ"الدوبل ديسمتر". حوّلوا أنظاركم و روا واسمعوا واستمعوا واقرأوا كيف يراه خصومه الحقيقيون، لا المرضى والموتورون.
إنهم يرونه عنوان التحدي الحقيقي لديهم ... إنه من يمسك بزهرة الربيع العربي أن تسقط في الوحل الذي أحاطوها به .... لا أشك قيد أنملة في أن أعداءه الحقيقيون هم الذين يقفون وراء الإنقلاب، وهي بالقطع الصهيونية ... وهي من تُجنّد محور الشر العربي، ليكون الأيدي التي يضربون بها، والأرجل التي يبطشون بها... وهل غُدِر زعيم وبطل إلا من بني قومه!!!
كنت أضن عليه بلقب الزعامة، لأن لدينا عقدة تجاه المدح ... نرى المدح سبّة للممدوح وللمادح ... لكنني أقول الآن إنه زعيم، ولعله آخر الزعماء ... آخر زعماء الحقبة التي عشنا ونعيش. والزعيم هو من تتجاوز رؤاه ومقاييسه رؤى عامة الناس ومقاييسهم ... الزعيم الحقيقي هو من يُتعب من معه ومن حوله ومن يأتي بعده ... لا يقوون على مجاراته، ولا يحتملون احتماله، ولا تسع عقولهم وقلوبهم ما يسعه عقله وقلبه .... وأشهد أنه من تلك الطينة.
يستعطف بعضهم الناس بالقول انه "شيخ ثمانيني"، وأشهد أن روحه " ثابتة على العشرين". لم أرى صبورا على الاستماع مثله، وعلى المحاورة مثله، وعلى حضور الذهن مثله، وعلى القدرة على التقاط الفكرة وإعادة بنائها وصياغتها مثله. لم أر قدرة على مخاطبة جميع فئات المجتمع من "عليتهم" الى "عامتهم" مثله .... فيلسوف مع الفلاسفة، ومفكر مع المفكرين، وفقيه مع الفقهاء ... شباب مع الشباب، وكهل مع الرجال، وشيخ مع الشيوخ .... صوفي حد العشق مع ابن القيم، وسلفي حد العمق مع ابن تيمية ... ظاهري حد الثورة مع ابن حزم، وعقلاني حد الحكمة مع واصل وصحبه ... اصلاحي مع الافغاني وعبده، وإخواني مع البنا وسيد ... نهضاوي مع بن نبي، وأصولي مع الترابي .... حداثي حد النخاع مع رموز الحداثة العربية الوطنيين، وعروبي مع عصمت سيف الدولة ومسعود الشابي ... محاور ند لرموز الحداثة الغربية بل وما بعد الحداثة ... يسك طريق التلاقح بشجاعة، ويرسم الحدود حين يتوجب ذلك.
ذلك هو الغنوشي الذي يحارب ... وأعيد القول غرّ من يتصور أن الغنوشي يحارَب لأخطائه، وهي كثيرة ... وهل هو ملاك طاهر أو نبي مرسل؟ إنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ... فلا بد ان يخطئ ... ولا بد لجواده أن يكبو ... ولكن ليست سقطاته هي ما تستعدي الخصوم عليه ... لا وألف لا .... يكفي أن تعرف خصومه كي تعرف من هو ... ويكفي ان تعرف أعداءه كي تعرف من هو ... يكفي أن تعرف أصدقاء الإنقلاب الظاهرين والمتسترين كي تعرف لماذا يحارَب الغنوشي.
وقديما قال الفقهاء : إذا بلغ الماء القُلّتين لم يحمل الخبث ... فكيف بمن هو نهر هادر !!!
من الطبيعي أن ينال الغنوشي مثلما نال أمثاله - كما يعلّمنا التاريخ - سياط محبيه وتلاميذه، وليس فقط خصومه وأعداءه .... هكذا هم الكبار في التاريخ .... يبتلون حتى بظلم الذين يحنون رؤوسهم أمامهم، وبظلم الذين لا يصبرون على البقاء معهم .... يظلمونهم حتى وهم يعانون ظلمهم ... وهم يتقلبون على جمر الغضى بين ظلمين .... وذلك هو الابتلاء العظيم.
رحم الله الشابي:
كلما قام في البلاد خطيب ### موقظ شعبه يريد صلاحه
أخمدوا صوته الإلهي بالعسف ### أماتوا صداحه ونواحه
الغنوشي ثأر الأطراف و"بلاد السيبة" وما "وراء البلايك" التي حولها المركز والمخزن الى مجبى.
الغنوشي ثأر هزائمنا السابقة أمام المستعمر وقبيله.
الغنوشي امتداد مسيرة المصلحين الكبار الذين أنجبتهم ربوعنا المقموعة، وعلى رأسها مسقط رأسه الحامة.
الغنوشي هو المرزوقي ... هو الهمامي ... هو كل صوت حر ينتفض للحرية والكرامة.
أجزم أنهم هكذا ينظرون إليه .... إنهم ينقمون عليه لأنه مد يده بشجاعة إلى عش دبابيرهم يخرجها كل مرة بيضاء من غير سوء.
إنهم ينقمون عليه لأنه قاد في أربعبن عاما أشرف ثلاث معارك في تونس : معركة الهوية في السبعينات والثمانينات، ومعركة الحرية في التسعينات وعشرية القرن الجديد الاولى، والآن معركة الديمقراطية. ولعل نفسه تحدثه بأن يختم حياته بقيادة الانتصار في معركة الاستقلال الثاني الحقيقية.
إنهم ينقمون عليه لأنه استطاع أن يدخل حمى كان محرم على "أولاد الحفيانة".
إنهم ينقمون عليه لأنه استطاع أن يكون من يستمع إليه في مواقع القرار الاقليمي والدولي. إنهم ينقمون عليه لأنه استطاع أن يجعل بعض أعدائه لا يرون لتحقق مصالحهم طريقا يستثنى منه المرور عليه.
أكتب هذه الأسطر في هذا اليوم من هذا الشهر المبارك وفي هذه الساعات أتعبد بها الله جل وعلا ... لا ابتغي بها رضا غيره ... لا أتراجع فيها عما دافعت عنه السنين الطوال من إيمان بالعمل المؤسسي وبكل شروط الديمقراطية الحقيقية في الأحزاب وفي الدول ... كما لا أتراجع فيها عن نقدي المباشر له حين رأيت ذلك واجبا ... كما لا أتراجع فيها حتى عن مواقفي ورؤيتي في التعاطي السياسي والتي اختلفت فيها معه اختلافا جذريا احيانا .... ولكن بقدر ما علينا ان نكتب "ما نرى" و"ما نحب"، ونستميت في الدفاع عنه، بنفس القدر علينا ان نصدح بـ"ما يجب" وما يحكم به السياق، والموقف، وما تقتضيه موازين الصراع .... ومنه تعلمت ان ليس للحقيقة وجه واحد، وأن الاختلاف رحمة، وأنه لا يفسد للود قضية ...
إنها أيضا نصيحة لبلدي وأبناء بلدي أن : لا تقتلوا أسودكم فتأكلكم كلاب أعدائكم.
تاريخ أول نشر 11\4\2022