يصعب الحديث في حضرة "الطوفان" عما سواه، وإن كان الحديث في حضرته حتى فيه قد يغدو مجرد لغو ... فبين الفعل وهذر اللسان بعد ما بين المشرق والمغرب.
لكن العاجز عن أن يكون في ميدان المدافعة، اولى به ان يفكر في يوم "الجهاد الأكبر"، ذلك أن تجربتنا المريرة، قدمت لنا دروسا جمة، ومنها القدرة الفائقة على "الاستشهاد في سبيل الله" ومقارعة الأعداء، والعجز البائن عن "الحياة في سبيل الله"، مع أن ذلك هو المعنى الحقيقي للاستخلاف. فتحقيق الاستخلاف يقوم على النجاح في عمارة الأرض وليس في إفناء الخلق، وفي التعارف والتعايش وليس في التصارع والتنافي.
نعود للإنقلاب الذي "صنعناه" بعجزنا عن إدارة معركة، كان سقوط رأس النظام السابق مجرد بدايتها. وكان من أبرز أوجه "صنعتنا" أننا دخلناها "بفركة وعود حطب" ... لم نستثمر فيها عشرين عاما من المعارضة الاستثمار الحقيقي، في بناء الكوادر القادرة على إدارة المعركة، ولا البدائل القادرة على الاستجابة لطموحاتنا في دولة الحق والعدل والحرية، على مستوى الأفكار والبرامج العملية والمنوال التنموي والمنظومات الادارية والقانونية البديلة والقادرة على "تبديل" وجهة الدولة من "دولة تسلطية في خدمة الأقلية" إلى دولة " الشعب والكرامة واللامركزية"
لم تكن معرفتنا بـ"ما لا نريد" قادرة وحدها على تحقيق ما نريد، إذ "السلب" وحده لا يأتي بخير . فتلقفتنا "الدولة التنين" لتوقعنا بين فكيها، وتحولنا إلى أدوات في يد "النظام"، الذي بقي جاثما على صدورنا باسم "استمرارية الدولة". و"استمرارية الدولة" تلك هي التي مكنت ولا زالت تمكن لانقلاب يحلو لنا أن ننعته بـ"الرث".
وعلى طول سنتين من الانقلاب، ومع كل الفرص التي أعطيت، بل وأعطاها الانقلاب بنفسه لمعارضته، لم تفلح تلك المعارضة لا في توحيد صفها ولا في تقديم بدائلها، ولا أولى وأحرى في تقديم نقدها الذاتي لتجربتها. ولأن الكيان الاجتماعي يطرح على نفسه من المهام بقدر ما يقتضيه حجم منافسه، فكان "الانقلاب الرث" متناسبا مع الكيان الذي انقلب عليه والذي تحول إلى معارضته : "انقلاب رث" مقابل "معارضة رثة".
من هذه الزاوية، ليس على أي أحد أن يلوم الشعب، الذي يقابل الجهتين باللامبالاة والتجاهل، وبالتسلح بطاقة الصبر الجميل لديه، ويتحين بزوغ "فجر صادق" يأتيه، أو يستعجله عندما يستيقن انحسار "فجر كاذب".
أمام "قوى التغيير " فرصة للتكفير عن خطاياها وأخطائها، من خلال التمحض للتفكير والتخطيط لما بعد الانقلاب. فقد استهلكت سنتين من عمرها وعمر الشعب في موقع "المعارضة الرثة"، ومن المفروض أنه تبين لها أنها دون مستوى إنجاز ما بشرت به من إسقاط "الانقلاب الرث"، وأن الشعب وإن لم "يستهويه" الانقلاب فإنه لم يعد يصدق معارضته، فضلا عن أن يأمل منها ما يدعوه للاستجابة لدعواتها. والفرصة هي أن تقوم قوى التغيير بتقديم حصائل تجربتها بنقد ذاتي جريئ إلى "طاقات جديدة واعدة"، تملك من صفاء السيرة الذاتية، ومن الاستعداد النفسي الخالي من أوحال تجربة سابقة، تكبل الإقدام والجسارة، وتوصد أبواب الشعب أمامها لسابق معرفتها بها. فلا تغيير بدون تجديد ولا تجديد بدون جديد.
دورات التغيير الاجتماعي لها قوانينها، ومنها شرط التجديد. لكن تجربة الأمة بينت، أن التجديد يأتي في شكل "قطيعة" نفسية مع الماضي، من دون تأمل فيه ومعرفة دقيقة به، فتكرر أخطاءه، وتسير أحيانا سيرته حذو النعل بالنعل. وهذا لا تقدر على إدراكه " قوى التغيير الجديدة " ، فعلى "قوى التغيير القديمة " عوض الانشغال بمنافستها، والمكابرة بزعم استمرار أهليتها، أن تعمل على تمليكها حصاد تجربتها، وأن تؤهلها إلى مستوى يتجاوز ما وقعت فيه من أخطاء وخطايا.
ما يحتاجه ما بعد الانقلاب من جهد، أكبر مما يحتاجه إسقاطه ... هذه القاعدة يجب أن تكتب بماء الذهب، وتوضع على كل باب، وعلى ناصية كل شارع، وفي جبين كل "مقاوم".
يحتاج ما بعد الانقلاب منوالا جديدا للتنمية الشاملة، وهذا يحتاج سنوات لبنائه. يحتاج ما بعد الانقلاب إصلاح عميق لمنظومة اشتغال الدولة، حتى تواكب منوالا جديدا للتنمية، فلا مناص من المراجعة الدقيقة للمنظومات القانونية جميعها، ولمنظومات الأوامر الترتيبية جميعها، بل ولأعراف الإدارة والتسيير . فلا تكفي الشعارات الكبرى التي حملها الدستور، ما لم توضع المنظومات القانونية التي تصدقها. كيف تبني دولة تخدم الشعب ولا تخدم الحاكم أو الأقلية التي تستفيد من ريعها زهاء قرنين لا يتغير فيها إلا بعض أعضائها بسلاسة ... كيف تجعل القوى الصلبة لا تقدس إلا القانون وإرادة الشعب ولا تنحني لغيره ... كيف تجعل اللامركزية حقيقة لا شعارا ... وكيف تجعل الحرية خطا أحمر لا يجرؤ على الاقتراب منه كائنا من كان.
هذا هو المطلوب الانطلاق منه "الآن الآن وليس غدا" ... هذا هو ما يمكن أن يمنح "المعارضة الرثة" صك الغفران عن أخطائها وخطاياها ... فهل تستجيب "لما يحييها"؟