search

أين أنتم يا علماء تونس؟

لدى متابعتي لأحداث فتح الشام، وانكشاف جزء مهم من مشهد الثورة السورية الذي كان مخفيا عنا، استرعى انتباهي الدور الكبير الذي لعبه علماء ومشايخ الشام.

كانت الصورة الغالبة عندنا هي صورة المشايخ الذين تعاونوا مع النظام وساندوه، كصورة المغفور له الشيخ سعيد رمضان البوطي وتلاميذه، ومدرسة الشيخ أحمد كفتارو، والقبيسيات، وطبعا أحمد حسون.

لكن لم يكن لنا اطلاع على الدور الكبير الذي لعبه علماء ومشايخ كبار وأجلاء يحضون يمكانة كبيرة عند السوريين، ولم تستطع السلطة البعثية تدجينهم أو استئصالهم.

وقد كنت قرأت عن مواقف بعض العلماء الكبار في الخمسينات والستينات وحتى منتصف السبعينات، كمواقف الشيخ محمد الحامد والشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني وغيرهم.

وربما كانت الغفلة مرتبطة بما كنا نتصوره من أن سطوة البعث وحافظ اسد لم تكن لتترك لهؤلاء مكانا في الساحة، وخاصة بعد صدور القانون الذي يحكم بالاعدام على كل منتسب للإخوان المسلمين. لكنني فوجئت بأن العلماء لم ينقطع دورهم حتى بعد الأحداث الدامية في بداية الثمانينات. فقد ظلت نخبة معتبرة منهم قائمة بالحق، وفي نفس الوقت محافظة على مسافة بينة من الأحزاب السياسية، ودون أن يمنعهم ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للحاكم والاعتراض أمامه في جهر بكلمة الحق، وكان حافظ أسد على رغم سطوته وجبروته يخشاهم ويحرص كل الحرص على أن لا يصطدم بهم.

ولما استفحل الأمر وقامت الثورة السورية، انخرط فيها عدد كبير من العلماء، تتقدمهم قامات كبرى لا يشكك أحد في علمها ولا مكانتها. وقد ساندوا المظاهرات وانخرطوا فيها، ثم ساندوا العمل المسلح في ما بعد، وهاجروا مع المهاجرين، وشكل نخبة منهم المجلس الاسلامي السوري وعلى رأسهم الشيخ أسامة الرفاعي.

وكانت انتماءات هؤلاء العلماء المذهبية متنوعة، فمنهم الصوفية الذين استعادوا تاريخ الصوفية التي قاومت الحكام الظلمة وقاومت الاستعمار، ومنهم علماء المذاهب السنية الأشعرية، ومنهم علماء أهل الحديث، ومنهم علماء المدرسة الاخوانية.

ما لفت انتباهي هو أن هؤلاء العلماء كانوا يمثلون امتدادا لمؤسسة العلماء التي لعبت أدوارا مركزية في حضارتنا بقوة تأثيرها واستقلاليتها.

وعلى عكس ما فعله بورقيبة ودولته من عملية تحديث قسري نسف بها مؤسسات الزيتونة التعليمية والعلمائية والوقفية، فإن أعتى أنظمة البعث في العراق وسوريا والنظام الناصري - رغم كل الجهود التي قاموا بها في محاصرة المؤسسات الاسلامية - لم يستهدفوها بمستوى الاستئصال الذي بلغته في تونس.

ومن أبرز عمليات الاستئصال البورقيبية، وصولها إلى مستوى تجفيف بيوتات العلم التونسية، على عكس ما ظل قائما في سوريا، كوجه من وجوه تواصل تاريخنا الاسلامي، حيث كانت العلم يتوارث في عائلات مشهورة. وهو ما شهدنا عكسه في تونس، لدرجة أن أبناء شيوخ العلم الكبار تحولوا إلى نقيض ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، حتى قيل أن أحدهم - وقد غدا دكتورا علمانيا يعقوبيا - لا يرى من فائدة في مكتبة أبيه وجده بل دعا إلى إحراقها!

ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها الشيخ الفاضل بن عاشور في المحافظة على الزيتونة من خلال بعث الكلية الزيتونية، ورغم بعث الجامعة الزيتونية في إطار سياسة سحب البساط التي انتهجها بن علي سنة 1988، إلا أن تلك الجهود حوصرت من دعاة الاستئصال بمجرد استلام محمد الشرفي وزارة التعليم العالي، وكانت من أسباب حركة فيفري الطلابية في 1990.

وقد حدثني أحد أساتذة الشريعة الذي تولى منصبا إداريا فيها أن تمويل مبنى للجامعة الزيتونية يليق بها، كان جاهزا بتبرع من جهة إسلامية، ولكن الدولة التونسية ماطلت في الترخيص لبنائها، وكل ذلك في إطار سياسة الاستئصال والتهميش.

علينا أن نعترف أن مؤسسة العلماء قد تضررت من التسييس، سواء من خلال قرارات الدولة القسرية والتوظيفية، أو حتى من معارضيها، حيث سعت المعارضة اليوسفية ثم الاسلامية إلى توظيف المؤسسات الدينية بما فيها العلمائية.

لم يستطع العلماء المحافظة على استقلاليتهم التي لم يكن تمنعهم من إبداء موقفهم من القضايا العامة من موقعهم ذاك، فارتد ذلك على مكانتهم ودورهم.

غير أن ضعف المؤسسة العلمائية لا تقتصر أسبابه فقط على التسييس، ولا حتى على غلق مؤسسة الأوقاف التي كانت توفر لهم معاشات بعيدة عن تحكم الدولة. ذلك أن هاته الأسباب مشتركة على الجملة مع بقية البلدان العربية. وإنما كان الضعف أيضا نتيجة تقطّع سلسلة النسب العلمي في بيوتات العلم العريقة، وهزال التكوين العلمي العلمائي القادر على التصدي لمستجدات العصر والمعبئ بمورده الموسوعي من الرصيد الفقهي والأصولي للمدارس الاسلامية الكبرى.

على العكس من ذلك حرصت البيوتات السورية على توريث العلم فيها، وحرص العلماء على استقلاليتهم، والأهم حرصوا على عمق تكوينهم العلمي بما فرضهم كمرجعية علمية قادرة على حمل أمانة العلم والتصدي لمستجدات الواقع على جميع الأصعدة. وهو ما فرض على الدولة الحذر في التعامل معهم تجنبا للاصطدام بهم لما يعلمون من مكانتهم لدى الشعب.

رغم العلمنة اليعقوبية القسرية التي خضع لها المجتمع التونسي، إلا أنها لم تقدر على انتزاع روحه المحافظة. وبرغم ما يتسم به من روح منفتحة على الجديد في نفس الوقت، إلا أنه انفتاح في إطار المحافظة. والأدلة على ذلك كثيرة في سلوك المجتمع اليومي، وأيضا في ردة فعله تجاه الأحداث والمبادرات التي يرى فيها شططا وخروجا عما يجمع بين المحافظة والانفتاح. حتى أننا من خلال تتبع مسار العلمنة، نلاحظ بوضوح أن محاولاتها "العنيفة" غالبا ما كانت تواجه برد فعل، وإن كان لا يتسم بالعنف المادي، إلا أنه يكشف عن نزعة صمود ومقاومة. ولعل الاستجابة السريعة لـ "عودة المقدس" بعد أن ظن "الحداثيون" أنهم قد حققوا نقلة نوعية "قبروا" معها مؤسسات المجتمع التقليدي البالية وثيقة الصلة بالاسلام دليل على ذلك.

لا أغمط حق العلماء الذين يجتهدون الآن في إكساب المؤسسة العلمائية شخصيتها المتميزة ويحاولون استعادة مجدها الأثيل، لكنها لا زالت في تقديري بعيدة عن المستوى الذي يجب أن تحتله في مجتمع عريق النسب بإسلامه فخور بتاريخه.

فهل تستفيق المؤسسة العلمائية في تونس، وتستعيد دورها كمؤسسة حضارية، وتعد لتلك الاستفاقة عدتها من الاستقلالية ومن عمق التكوين العلمي لرجالها، والاستجابة لطبيعة المجتمع التونسي المحافظة والمنفتحة في آن واحد؟

قديما قال أحدهم متحسرا على فساد طبقة العلماء:

يا علماء يا ملح البلد ### من يصلح الملح إذا الملح فسد.

وأنا أعدل البيت بالمناسبة وأقول:

يا علماء يا ملح البلد ### من يأت بالملح إذا الملح نفد

تاريخ أول نشر 2025/3/5