قال زهير وقد بلغ الثمانين :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
لكن صاحبنا أجابه بقول الآخر :
عمري إلى "التسعين" يمشي زاحفا
والروح ثابتة على العشرين
هكذا هو لسان حال الشيخ راشد، وقد بلغ الإثنين وثمانين عاما من عمر قضاه قائما بالحق، لا تفل له قناة، ولا يرمي فيها عصا الترحال، من فكرة إلى فكرة، ومن بعث إلى بعث، ومن حركة إلى حركة، ومن ثورة إلى ثورة ... أخذ من الحياة سمتها الكبرى تجددا، فلم يستنكف عن الأخذ بكل جديد نافع، ورآى الحركة طاقة فلم يرضى بالقعود بديلا، ولا بالتوقف سبيلا، فما أفسد الماء إلا وقوفه ... رآى الحياة تقدما وسيرا حثيثا و كدحا إلى الله، فلم يفكر لحظة في التوقف ولو لجمع الزاد و ترقب رفيق الطريق .... فضل ان يتزود وهو على راحلته، وان يرافق من في الطريق، وان يبني لغده وهو يغذ السير ... يشق الطريق ويميط أذاه في نفس الوقت ... عقد العزم ولم يفل عزمه برهة من زمن .... كان اشد ما يكون عزما حين تتناوشه السهام، فتخلق فيه عزما جديدا، وتصميما جديدا، وكأنه يولد من جديد، و يتحول جسمه الذي يتسلل إليه الكِبَر الى كتلة من نار، وعقله شعلة من نور وقلبه قبس من ضياء... ذلك هو الشيخ راشد الغنوشي رجل المشروع والفكر والحركة .... حمل هم الأمة شابا يافعا، واختط طريقا يبسا في بحر لجي "لا يخاف دركا ولا يخشى"، مفعم بالنور الإلهي، والهدي النبوي، وماضي الأمة المجيد، وإيمان عميق بسلامة فطرة أمته وبني وطنه، وبأنهم لن يرضوا بغير الاسلام بديلا، وأنهم لن يسلموا أنفسهم لغاز مستعمر ... طاقة الايمان تلك هي التي سلحته بقدرة مميزة في النقد المزدوج : نقد مظاهر الانحطاط في تاريخنا ونقد مظاهر التفسخ في حضارة الغرب .... كان يتوخى الحكمة، ولكنه كان لا يستنكف عن خوض الصراع، ولا يتجنب المصادمة حين تجب، فلا تحرر بدون مدافعة، ولا تحرير بدون مجاهدة وجهاد مبين ... لكن طاقة النقد المزدوج تلك، لم تمنعه من القدرة الفائقة على الاستفادة من كل نافع، ليس فقط في الوسائل والماديات، ولكن أيضا في المناهج والافكار والاساليب ... قدرة هائلة على التركيب المنهجي والعلمي، والاستعداد للتجريب، ووضع الافكار موضع الامتحان على رقعة الواقع بكل تناقضاته وتدافعاته ومصالح ساكنيه المتصارعة.
كثيرين من داخل حركته وخارجها، من داخل الاسلاميبن وخارجهم، من شركاء الوطن وخارج الوطن، من الأصدقاء والخصوم، من المحبين والاعداء، لا ينقطع بهم العجب من صبره الايوبي وهدوءه وقدرته على التحمل .... لا يخشى حوارا، ولا ينكفئ عن رغبة توافق وعن بحث عن مشترك ...
ذلك هو راشد الغنوشي زعبما ومصلحا ... أختار وهو في هذا العمر ان يقدم المثل تلو المثل، على ان زعيم القوم هو من يتقدم صفوفهم عند المغارم وليس المغانم ... فرضي لنفسه في هذا العمر ان يكون وراء القضبان ... فتقدم له بشجاعة ... وليُغرق الانقلاب في شر افعاله ....
حياك الله يا شيخ مجاهدا وعلما للخير والعطاء، وقائدا وزعيما تفخر بك تونس وتفخر بك امة الاسلام ... حياك الله اسدا هصورا في محبسك، تقض مضاجع الانقلاب وسدنته، واملا ونورا يستهدي به الحيارى ...
حياك الله وامد في عمرك حتى ترى جهادك وجهاد إخوانك وبني وطنك يثمر استعادة شعلة الحرية والكرامة التي بذرت فسيلتها مبكرا، وأثمرت ربيعا تونسيا بل عربيا..... يريدون ذبول أغصانها، لكنها لن تموت بإذن الله، لأن أصلها ثابت سقي بدماء الشهداء وعرق الاحرار ...
سيسقط الانقلاب وسنفرح كما فرحنا ذات جانفي 2011 " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"
تاريخ أول نشر 2023/6/23