خلال تصفحي لليوتوب وقعت على حلقة من قناة الحوار اللندنية يتحدث فيها اربعة علماء ... سودانيين وفلسطيني ومصري عن زيارتهم لأفغانستان .... شد انتباهي ما سمعت واستكملت سماع بقية الحلقات واستمعت لحلقات لمدونين ومنهم من ينشر من أفغانستان نفسها ... كنت كما هو حالنا جميعا ضحايا "القولبة" التي يفرضها المسيطرون على الإعلام على عقولنا ومشاعرنا ... ركام من الأفكار المسبقة أو المضللة، وأسر تحت وقع احداث مضت، وذهول عن التمييز بين وجه الالتباس ومصدر النقد وعدم الرضا، وبين وجه النصر والعزة والتحول في الأفكار والقناعات والاستفادة من دروس الماضي .... نحن للأسف ضحايا، ويزيد من وقع ارتهاننا لحال الضحية انهزامنا النفسي، أمام كل صيحة فزع مضللة، تصدرها أبواق لا تروم من ورائها دفاعا عن حق ولا دفعا لباطل، وإنما التخذيل والتشكيك في كل ما يصدر عن المسلمين، وتشوية الجهاد النبيل في طرد الغزاة على أيدي الأباة، بأخطاء الطريق واجتهادات البناء في مناخ كله استعداء، وكله تثبيط، وكله تآمر، وكله كيد بالليل والنهار ... كله حرب ضروس، نفسية واقتصادية وفكرية وإعلامية ....
خلل منهجي خطير يلازمنا في عدم التفريق بين مراتب الأعمال ومستوياتها .... بين ما هو استراتيجي وما هو مرحلي وما هو تكتيكي ... الخلط العقيم والمفزع بين ما هو ثقافي، يحتاج أن نحترم فيه خيارات الشعوب وحقها في حماية ثقافتها، وما هو سياسي أو ما دون ذلك بكثير، ومما قد يكون له علاقة بسياقات تاريخية أو سياسية أو حتى جفرافية .... أحيانا نبدو "عولميين" أكثر من أرباب العولمة الإمبريالية، ونجد انفسنا من دون شعور، مدافعين شرسين عن خيارات، ونقيم الدنيا ونقعدها عن ممارسات، بعضها في غاية الجزئية، لا لشيئ إلا لأن الغرب قد جعلها أم المعارك، وفرضها في عالم الإعلام والسياسة والفكر على أنها أم المعارك، ونذهل عن أنه فعل كل ذلك لا لأنها أم المعارك، بل لأنها تصلح أداة للتشويه والتنكيل، وتساعد على صرف الأنظار عن أم المعارك الحقيقية في الاستقلال الأقتصادي والسياسي والخروح من نير التبعية والإلحاق بل والنهب الاقتصادي.
لا زلت أذكر بداية الهجوم الامريكي على إفغانستان قبل 20 عاما، كيف يحرص الإعلام على تصوير كابل على أساس أنها خرائب موحشة، ووضع مزري للإنسان والحيوان والجماد ... وأذكر أن أحد القنوات قد صورت مقطعا لمراسلها ووراءه مناطق خضراء ومساكن جميلة .... وقلت يا سبحان الله ... أين كانت هذه الصور ... وربما جوزي ذلك الصحفي بتوبيخ عما فعل !
أتابع أحد الصحفيين الأفغان على تويتر ينشر يوميا صورا خلابة من أفغانسان ... كان بالنسبة لي عملا جبارا وذكاء منه ...
الحقيقة أن زيارة هؤلاء العلماء وما نقلوه، شجعني كثيرا على التعرف أكثر عن هذه الإمارة الوليدة، التي افتكت أفغانسان من براثن الغرب في حرب دامت 20 عاما، شاركت فيها اكثر من 40 دولة، ومنها دول إسلامية لم "تبخل" على الغرب بدعمها السخي، حتى تمكن لأمريكا وحلفائها في أفغانستان، وانتهت سياراتها رباعية الدفع وبعضها "على الزيرو" غنيمة للإمارة الاسلامية.... في الأخير خرج الكل صاغرون، وباءت خططهم بالفشل الذريع، من الحرب إلى التفاوض إلى خديعة الخروج المنفرد، إلى الحصار الآن، إلى الاستيلاء على سفارات أفغانستان وتركها بيد عملاء أمريكا في حكومة أشرف غني، إلى تجميد 9 مليارات دولار وترك الإمارة للجوع ... لكنها تفخر بأنها استطاعت تسيير البلد سنة كاملة وما اقترضت دولارا واحدا ... فقط حاربت الفساد واستثمرت خيرات بلدها ....
"الإمارة الاسلامية" كما يحبون أن يطلق على دولتهم صامدة، وتحقق كل يوم نتائج إيجابية في صمودها، وتخترق الحصار بصبر وعزة وثبات على المبدأ، وتستفيد من أخطائها السابقة من دون انهزام وتسرع .... هذه الإمارة وما فعلت تقدم لنخب الربيع العربي درسا في الصمود وحنكة التفاوض، والتفريق بين العفو عن المجرمين والظلمة، و بين أن تتركهم على مواقع تمكينهم من اقتصاد البلد وخيرات البلد وإعلام البلد وإدارة البلد بل وحتى سياسة البلد .... لقد أصدرت طالبان عفوا عاما، وتمتع به من قتل منهم المئات، وهو آمن الآن في بيته، بل وتحرس قبور بعض من قتل منهم المئات، مخافة أن يأتي من ينبش قبره، ممن لا زال يحترق قلبه من قتل من أهله وذويه ونكل بهم ....
متى نتواضع ونتعلم الدروس من غيرنا؟
رجال إفغانستان أعطوا ولا زالوا يعطوننا الدروس ... ولكنهم لا يتعالمون على غيرهم كما نفعل نحن للأسف .... يجتهدون ويقبلون النصيحة ويستمعون للرأي الآخر .... منفتحون على كل من يأتي إليهم سائحا أو مستثمرا أو باحثا، ولكنهم لا يتسامحون مع العملاء ومن يأتي لتخريب تجربتهم ....
حقائق كثيرة تحدث عنها هؤلاء العلماء. أكتفي بواحدة منها وأترك البقية للاستماع للحلقات وهي موجودة على اليوتوب ... لقد كان من شروط الاتفاق بينهم وبين الأمريكان في المفاوضات التي دامت سنة، أن ترفع أمريكا يدها عن داعش ... فقد وجدوا على أرض الواقع، انه كلما كانوا أقرب ما يكون للإجهاز عليهم، تأت الطائرات الامريكية وتنقذهم بإخراجهم من الحصار الذي هم فيه !!!
لم تف أمريكا بوعدها، وها هي الإمارة تقاتل داعش للآن، وداعش ترتكب الجرائم المروعة للآمنين في الأسواق والمساجد ....
كما لم تف وبوعدها بتسليم أفغانستان لطالبان عند الخروج، بل خرجت مسرعة وتركت العاصمة والمدن تسرح فيها عصابات تلبس لباس طالبان ... لكن طالبان اسقطت كيدهم بالإسراع بالدخول لكابل، ثم إعلان العفو العام ... كانوا يحلمون بحرب اهلية وكانوا يظنون أن البلد ستعود إليهم بعد أشهر ... لكن الله خيب ظنهم واسقط كيدهم ...
تاريخ اول نشر 26\3\2023