search

الآن ... ما العمل ( الجزء الأول)

ها قد أسدل الستار على انتخابات لم تضف للانقلاب شيئا غير صفة "الانقلاب الدائم" التي وصفه بها العميد عياض بن عاشور.

لم يتوفر في الانتخابات أي شرط من شروط الشرعية التي تواضع العالم أجمع على تحديدها: حرة ونزيهة وشفافة.

كل مراحل العملية كانت خارج سياق الشرعية، حتى عدم التزوير بمعنى التلاعب بالأصوات والتلاعب بالقوائم الانتخابية، ليس هناك دليل يمكن الاستناد عليه لعدم وقوعها، باعتبار عدم وجود مراقبين في أغلب مراكز الاقتراع، وعدم وجود ملاحظين، ولا دليل على سلامة التطبيقة التي وقع اعتمادها لإتاحة التصويت لمن هم مسجلين في مراكز أخرى ولأسباب شخصية قرروا الذهاب لمراكز غير مسجلين بها.

هل كان لدينا وهم أن الانتخابات ستجرى في كنف الحرية والشفافية والنزاهة ؟

قطعا لم يكن لدينا أدنى وهم في ذلك.

المعارضة دخلت الانتخابات من خلال مبادرات ترشح فردية، وحتى بعض الأحزاب التي تقدم رؤساؤها للترشح إنما استجابوا لطموح فردي أكثر منه قرار واع. هؤلاء الأفراد حاولوا جر المعارضة للانخراط في العملية الانتخابية، فسايرتهم بعض أجنحة المعارضة بتحفظ. وجدت الترشيحات لدى المزاج العام لقواعد الأحزاب ترحيبا، فساهمت في حملة جمع التزكيات، وأغرى الجميع موقف المحكمة الإدارية. لكن الانقلاب تمادى في خطه الانقلابي، وفي تصميمه على وضع حد لكل احتمالات المنافسة، فقام بما قام به حتى الوصول إلى سجن المترشح الذي أفلت من غرباله، ولفق له أكثر من ثلاثين قضية، ولم يقترب يوم الاقتراع إلا وحكم عليه بـإثني عشر عاما سجنا.

بعد رفض هيئة الانتخابات قرار المحكمة الإدارية بصحة ترشح الزنايدي والدائمي والمكي، اختلفت المواقف بين أغلبية ساحقة تقودها الأحزاب التقليدية رافضة المشاركة في الانتخابات، وبين أقلية دعت إلى المشاركة عن طريق التصويت للعياشي الزمال.

لم ير الداعون للمشاركة وأنا منهم ما يبرر المقاطعة طالما أنه لم يتغير في الجوهر أي شيء. فكون الانتخابات تفتقد المعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، فهذا مسلم به ابتداء، سواء بما قرر ومورس قبل رفض قرار المحكمة الإدارية، وسواء بما هو منتظر لما سيقدم عليه الانقلاب بعد ذلك كلما شعر بأدنى احتمال "خطر" يواجه "اغتصابه" للصندوق.

أثيرت حجج كثيرة حول ضرورة المقاطعة لم يكن لها معنى لمن قبل الانخراط في العملية الانتخابية، إلا لمن كان "متوهما" أنه بترشح من اختاره من الثلاثة يمكن أن يفتك الصندوق من براثن المغتصب.

ومع ذلك كان هناك تشكيك في أن يكون الزمال نفسه "كومبارس" وما حصل له مجرد تمثيلية، وكان هناك شك أن الزمال مجرد "غواصة " وطد ، بل إن جزء من التخوفات التي صنعت: أن الزمال الشاب الذي يحيط به الوطد، سيكون أشد وأنكى من قيس سعيد العجوز الذي لن يستمر في الحكم طويلا في كل الأحوال.

لم نفلح في إقناع الرافضين بأنهم يتحدثون عن احتمال ضئيل جدا في أن تجرى الانتخابات بشفافية وأن يفوز بها الزمال هذا أولا، وثانيا أن الحديث عن أن الزمال غواصة وطد ليس لها أي نصيب من الحقيقة غير الرهاب الذي أصاب بعض الاسلاميين، وأن الرجل بعيد عن التصنيف الايديولوجي وأن من حوله متنوعون. لكننا اجتهدنا أن نصل مع الزمال إلى أهم شيء ربما زاد من حنق الانقلاب عليه، وزاد من خشية بعض الاستئصاليين المتواجدين حول عبير والزنايدي، وقرارهم التصويت لقيس مساء يوم الاقتراع، وهناك دلائل على ذلك. لقد كان الميثاق السياسي وما انطوى عليه من بنود، مجسدا تجسيدا لا لبس فيه لكل مطالب المعارضة، لم يكن ميثاقا تحت الطاولة، بل كان علنيا تمت تلاوته في الندوة الصحفية، وتم نشره في صفحة الحملة، وتمت الاجابة على استفسارات حوله في مقابلات تلفزيونية مع أعضاء الحملة.

كنا نقوم بذلك وبدون أدنى وهم أن العملية ستتم بشفافية ونزاهة، وأن الانقلاب سيمكن الزمال من المنافسة الشريفة. وكيف يكون ذلك وهو لم يتمكن حتى من القيام بحملته الانتخابية، بل أنه حتى أعضاء حملته الانتخابية كانوا يقومون بالحد الأدنى، لما فرضه الانقلاب من خوف جعلهم ينتظرون بين لحظة وأخرى الالتحاق بمرشحهم.

لم نكن متوهمين ثالثا أن معارضة مشتتة، وعاجزة عن اجتراح البدائل وتحريك السواكن داخلها، ومسكونة بالرهاب الإيديولوجي، ولم تقدر على مواجهة الانقلاب في مهده، وقد كانت نذره بادية للعيان أشهرا قبل ذلك، ولا على مواجهته حين وقع، ولا على مواجهته حين امتد وتوسع وأحكم قبضته ... هذه المعارضة التي أفشلت المبادرات الجدية التي انطلقت واعدة مع "مواطنون ضد الانقلاب" إلى أن تم "تدجينها" مع "جبهة الخلاص" ... ثلاث سنوات لم تتزحزح فيها المعارضة المتحصنة حول متاريسها الايديولوجية وحول رؤاها المتكلسة و حول وجوهها الشاحبة إلا كما تتزحزح الصخور الصماء في الجبال الرواسي... لم نكن متوهمين أن تتحول تلك المعارضة فجأة إلى أمل في خوض صراع مع الانقلاب يطيح به.

إذا لم نكن متوهمين فماذا يمكن أن نسمي ما قمنا به وفشلنا فيه؟

- كنا ندرك أن الانقلاب يريد المقاطعة وعمل إلى آخر لحظة على ضمانها، لأن المقاطعة هي التي تعفيه من الاضطرار إلى ارتكاب أي محظورات قد تأتيه بما يضره، ولأنه لا يأمن الشعب ولا يثق فيه، ولأن المقاطعة في العرف الدولي وخاصة لدى الأنظمة التي تتقاطع مصالحها مع الانقلاب ستعتبر فقط لامبالاة وأن حجج المعارضة يمكن الرد عليها بل وحتى تجاهلها.

كنا نريد أن تكون المشاركة لحظة"التحام" مع الانقلاب وصراع وجها لوجه مع الشعب، وليس مع نخب تصدر البيانات وتقيم الوقفات وتسب وتلعن من وراء الحواسيب. كنا نرى أن لحظة التلاعب بأصوات الناخبين هي من أخطر ما تقوم به الأنظمة ولا تفلت من غضبها ورد فعلها ... وهذا ما كنا نريد وما كان يخشاه الانقلاب. لم تكن هناك أي ضمانات، ولكن كان ذلك أفضل الخيارات من أن تستمر "القطيعة" بين الشعب والمعارضة.

- كنا ندرك أن المقاطعة السلبية التي لا تستطيع المعارضة القيام بأكثر منها، لن تجدي شيئا، وأنها ليست أكثر من توفير فرص للنظام كي يفعل ما يريد.

- كنا ندرك أن الشعب لن يتحرك من أجل سواد عيون معارضة عجزت على تحمل الأمانة وأوصلت البلاد إلى الانقلاب بما كسبت يداها، وأنه لن يتحرك إلا استجابة لحاجاته الضرورية من العيش والأمن، وحين يتأكد أنه لن يقوم بها لتقطفها معارضة عاجزة متناحرة. يمكن للشعب ان يستجيب لمعارضة تشكل له أملا يتعرف عليها بحاسته التي لا تخطئ حين يرى فيها الإخلاص والأمل والتجدد. وكم خيب الشعب آمال كثير من المعارضات حين رآها تترصد انتفاضته كي تركب نضالاته ... لهذا ولغيره فالشعوب تصبر وتتحمل وتبحث لعيشها وأمنها ألف طريق وطريق ... وحين تستنفد ذلك تنتفض في لحظة لا يقدر أحد توقعها ... لذلك فانتظار رد فعل الشعوب لا يدل إلا على نزعة انتهازية لدى النخب تدركها الشعوب بحاستها ... لقد أدرك الشعب أن قيس سعيد لم يكن إلا سراب خلب، ولكنه لا زال يرى أن معارضته "كانت صرحا فهوى".

- من زاوية أخرى يبدو تاريخنا تكرارا لتجارب دول وشعوب سبقتنا في صراعاتها مع الدولة التابعة في عالمنا الذي هيمن عليه خلال القرن الماضي ولا زال المنظور والممارسة والفواعل الغربية. وكانت تجارب الدول مرتبطة بمدى ممارسة أشكال الهيمنة عليها، وكانت رحلاتها ومحاولاتها الانتظام في الأفق الغربي ترتطم بالمساحة التي وفرها لها النظام الغربي نفسه. ولأنها في الغالب تعتبر بالنسبة إليه مجال هيمنة واستغلال، فقد اتخذت تجاربها مراحل مريرة في محاولة الانعتاق من تلك الهيمنة، ومارس معها النظام الغربي كل وسائل الاخضاع ... وقد قاومت تلكم الدول الهيمنة الغربية ووكلاءها بكل وسائل النضال المسلح والمدني، وانتهت تجاربها المريرة إلى أن التعويل على المقاطعة الجذرية لم يقدم لها إلا مزيد الإخضاع والهيمنة، خاصة في ظل عدم وجود حليف خارجي تستند إليه. لذلك رأـت تلك الشعوب أن افتكاك السلطة من خلال استغلال الفضاءات التي تتيحها السلطة الظالمة نفسها، أفضل وأجدى من غيرها من الوسائل. هي مقاومة وإصرار على المقاومة، ولكن بأدوات الدولة، وبما تتيحه من الهوامش والفرص، أو بما تقدر المعارضة على افتكاكه، أو ما تتمكن من استغلاله من الأوضاع نتيجة انتفاضات شعبية أو انقسامات داخل أجهزة السلطة نفسها.

كنا نتحرك وفق هاته "الحقائق" ونحفر في الصخر بأظافرنا وفي "الوقت بدل الضائع"، وكان طبيعيا أن نفشل، ولم يكن عيبا أن نفشل، وحسبنا أننا خضنا تجربة، وخلخلنا السواكن، وبعثرنا المسلمات، وفكرنا خارج صندوق المعارضة التقليدية القائم على مفهوم القطيعة والمقاطعة السلبية.

رفض الداعون للمقاطعة أن يعتبروا المشاركة خطا من خطوط المقاومة، وتمسكوا بشكلانية ما اعتبروه تطبيعا واعترافا بالانقلاب! وكأن ما قاموا به من المشاركة في مراحل العملية الانتخابية ليست كذلك! لا بل إن جل ما قامت به المعارضة منذ الانقلاب لا يخرج عن اعتراف بمعنى من المعاني بالانقلاب. ولو تعمق الداعون للمقاطعة والمتحاملون على الداعين للمشاركة في مجمل تعاطي النخبة التونسية أحزابا وتنظيمات وشخصيات وطنية منذ الثورة على الأقل، لرأوا أن سلوك الشخصية التونسية بطبيعته مهما جنح ينقاد بسهولة إلى التفكير داخل مربعات الحلول التي تعتمد "الرهدنة" - وأستعملها هنا بحمولة إيجابية - القائمة على خوض أقسى الصراعات بأقصى المناورات لا بالحروب والتصفيات.

ليت السادة الذين يرفعون شعار المقاطعة يجلسون في هدوء ويديرون حوارات عقلانية، ويتمعنون في تاريخهم وتاريخ بلدهم القريب والبعيد ليستخلصوا دروسا هي أبعد عما يحملونه من أفكار قصووية في المضمون والممارسة، ولو أخضعناها للتحليل النفسي لبدت شيئا أقرب إلى حيل العاجز منها لروح الجدية والمسؤولية.

يقولون إن السياسة تحاكم بنتائجها، ما يعني أن أنه ليس ظاهر الأساليب هو الذي يحدد قيمتها، وإنما النتائج المتحصل عليها من خلال اعتماد أسلوب ما ... من هذه الزاوية قد تتبادل الأساليب المواقع أحيانا، فتتحول المشاركة إلى مقاومة والمقاطعة إلى استسلام وهذا معنى ما كتبته منذ أيام وأسيئ فهمه.

كتبت نصا خلال الحملة حول نقد خيار القطيعة الذي استبد بالمعارضة التونسية وتحول إلى عائق ابستيمولوجي في تفكيرها ... ومن قرأ ذلك النص وتابع ما أكتب عموما لا شك أنه سيدرك أنني بصدد الحديث عن ضرورة التجديد في الخيارات والوسائل وليس في المقاصد والغايات.

من المفيد الآن أن يقع التأمل في التجربة بهدوء وإدارة حوار عميق وأن يشرك في الحوار الشباب لأنهم هم من سيكون عليهم اجتراح خيارات المقاومة المستقبلية.

لم تكن كل الظروف الموضوعية، سواء تلك التي من صنعنا، أو من صنع الانقلاب، أو من صنع الظروف الموضوعية الأخرى، تسمح لا للداعين للمشاركة الذين كانوا أقلية، ولا للداعين للمقاطعة الذين كانوا الأغلبية الساحقة، أن يحققوا ما دافعوا عنه بشراسة. فقد أنفقوا وقتا ثمينا في جدالات بينهم وليس لإقناع عامة الشعب. فالشعب لم يشارك ولم يقاطع استجابة لنداء المعارضة التي انشغلت ببعضها وتركته يقرر مصيره بنفسه.

لكنني أقول - وليس من باب التحدي - للإخوة الذين دعوا بحماس شديد للمقاطعة: "هذي السدرة وهذا الحصان" و "سيدنا اللي يرد أمنا" ها أن الداعين للمشاركة لم يفلحوا في إقناعكم وإقناع الشعب بالمشاركة ... فماذا أنتم فاعلون؟

أجد من المهم أن أنوه إلى أن ما حصل من جدل وما يحصل من تقييم، لا يجب أن تنكب فيه الجهود للانتصار إلى أي خيار، بقدر ما علينا التوجه للمستقبل، واستصحاب التجربة كخبرة من خبراتنا، لم يكن فيها اختيارنا بين أبيض وأسود بل كانت ترجيحات واجتهادات فيها من الصواب بقدر ما فيها من الخطأ ...

هذا النص - على طوله - غاب فيه الحديث على كثير من المسائل المتعلقة بالموضوع، بعضها كتبت حوله من قبل، وبعضها بينه غيري ... وهناك قامات في المعارضة نكن لها كل التقدير، ولكن مواقفها التي أدلت بها تستحق ردودا وحوارات آمل أن يتسع لها فضاؤنا ومنابرنا ....

أنا إنسان "قدري"، بمعنى أنني أؤمن أنه بعد التفكير والتخطيط والعمل الجدي بل والجهاد الناصب، أن كل ما يحصل فيه خير ... لذلك أنا متفائل دائما وأبدا، ومؤمن بأن صبغيات شعبنا تحمل من الخير ما يفوق بأضعاف ما فيها من شر ... وأن نخبنا مهما جنحت فهي ثمار شعب عريق، دانت له الدنيا قرونا ودان لها أحيانا ... "وتلك الأيام نداولها بين الناس"

تاريخ أول نشر 2024/10/23