رواية تترجم سيرة مناضل ومثقف عضوي إسلامي للدكتور المهندس منصف السليتي.
ليست الرواية سيرة ذاتية و إن كان فيها شيئ من ذلك، وقد انفتحت خلال بطلها "سامي" وشخصياتها الأخرى، على "وجوه" الواقع المتعددة، من ريف الشمال الغربي التونسي الى العاصمة بفضائها الجامعي و مجالاتها السياسية والاعلامية والادارية والأمنية والقضائية ....، متنقلة بين ازمنة متعددة، تحكي تقلبات الواقع وتحول التصورات وتغير النماذج وتزاحم الأحلام و تكثف قيودها.
ومع الخروج القسري من الوطن والموطن، كشفت الرواية عن وجوه الواقع في المنفى الاضطراري الباريسي، وهناك لم تكن الأحلام أقل قيودا حيث باريس "اليمين المتطرف" تزاحم باريس " النور" :
لعنت باريس ما يجدي النقاش ### بلد النور أنا فيه الفراش
حيث تحولت شعارات الثورة الفرنسية في الحرية وحقوق الانسان، الى أحلام تحاصرها البيروقراطية الادارية والقوانين وعلاقات المصالح بين الدول، التي تطحن وتدمر كيان من لم يكونوا على مقاسها المجحف من اللاجئين .باريس التي عشقها واستوعب تاريخها وثقافتها وحفظ شعرها وغنى غناءها واستلهم كل فنونها ... ومع ذلك فقد ضنت عليه بقبوله لاجئا له حق الاقامة والعمل والتعلم والتداوي وجرعته مرارة الذل عشر سنوات !
تعج الرواية بالصور البليغة، ينقلها الكاتب جيئة وذهابا في باطن التاريخ قديمه وحديثه ومعاصره ... تاريخ تونس وفرنسا ... والعالم .
صور مفعمة بالإيحاءات النفسية، ومنفتحة على قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية تعكس انغماس "سامي" في هموم مجتمعه والعالم ... تقدم صورة بعيدة عن النمطية لمثقف عضوي إسلامي، لم يمنعه منحدره الاجتماعي "الآفاقي" من ان يكون في قلب الحركية السياسية النضالية في تونس السبعينات وما بعدها. مثقف عميق الإيمان بدينه، مرتبط أشد الإرتباط بأسرته، ولا سيما زوجته وامه التي كان مرضها كافيا بأن يقطع هجرته عائدا إليها متحديا مصيرا مجهولا ينتظره ... لكن الثورة التي فاجأته، قد انقذته وفتحت أمامه احلاما انخرط في تحقيقها بكل عنفوان الإيمان والثقة في النفس والحب للوطن، برغم انه تعود أن ليس له أحلاما بدون قيود!
في الرواية صور إنسانية لطوائف من المجتمع التونسي وتعاملها مع المناضل في زمن سيطرة الدولة البوليسية التسلطية ... صور محزنة من الانقياد للظلم، واخرى مبهرة من التضحية وركوب المخاطر لمساعدة المظلوم والوقوف لجانبه .... وفي باريس صور لرفاق المحنة من طالبي اللجوء من دول شتى، تعكس هما مشتركا ومصيرا واحدا أو يكاد ....
كانت صلتي بمنصف السليتي قبل ان تطأ قدماي الحرم الجامعي، من خلال مقالاته في مجلة المغرب ، حيث كان من كتابها و هيئة تحريرها ... كانت مقالاته بالعربية محكمة الصياغة معنى ومبنى ... وتابعت نشاطه فيما بعد، ولاحظت فيه حرصه على التميز، ورغبته في المساهمة والتأثير في المجتمع ... لا "يطل" على "التنظيم" إلا لحاجة التزود للخارج ... للمجتمع ... هكذا كانت سيرته في تونس ثم في فرنسا ... أين دخل المجتمع الفرنسي من ابوابه الواسعة. وعندما عاد لتونس استمر في نفس خطه، وساهم مباشرة في إنجاز احلام الثورة، التي كانت قيودها اكثر واعقد من أحلامه السابقة .... اتصلت به مرة وأنا في الشمال الشرقي مهنئا له على إنجاز طريق، وقد كان يومها مدير ديوان وزير التجهيز ... فاجأه الاتصال ... لانهم كانوا يجتهدون ولا يسمعون إلا من يعتب ويلوم وربما يتهم ... وتلك حقيقة مرة ...
الجميل في الرواية أنها كتبت بلغة مولييرية جميلة، ومن السهل الممتنع، تعكس متانة الثقافة والدربة في قلم المنصف السليتي ... وحرصه على كتابتها بالفرنسية، وهو الذي يمتلك ناصية الحرف العربي، نابع من ذلك الحس وتلك النفسية التي لديه ... وهو التميز والزراعة في "الأرض المتروكة"، التي قد لا تكون سهلة، لكنها اذا استصلحت بزت غيرها إنتاجا وإنتاجية ... أن تنفتح على الفرنسيبن وتقدم لهم نفسك كما تحب أنت لا كما يتصورون هم فهذا واحب، وان تكتب للمتفرنسين من التونسيبن فذلك واحب أيضا على أكثر من صعيد ...
أما أنا فقد قراتها رغم أنني لست "فرانكفيليا ولا فرانكفونيا" ... لكنني حريص على تتبع كتابات الاسلاميين والتعريف بها، في زمن تغشى طائفة منهم سحابة الشك في انفسهم وقدراتهم وجهادهم واجتهاداتهم .... رواية "الأحلام المقيدة" تبعث الروح في اجسام طغى عليها الخمول، وتعكس صورة لطيف من الاسلاميين اكبر بكثير من تنميط الخصوم المقصود، وتقدم زاوية لهم ولدورهم اكبر بكثير من المنظور السياسوي والثقافوي التقليدي الذي يغزو الساحة الثقافية للأسف.
تاريخ أول نشر 2022/9/7