search

الأستاذ الأمين البوعزيزي .. كما أراه

هذه خاطرة عزمت على كتابتها منذ مدة، ولكني آثرت تأجيلها حتى ينجلي النقع وتهدأ النفوس ... ففي أتون الصخب تضعف حاسة السمع والاستماع....

لا تربطني بالأستاذ الأمين البوعزيزي أية علاقة مباشرة، ولم يحدث بيني وبينه حتى مجرد مصافحة، رغم أنه قد جمعتنا مناسبات عدة ... لم أقدم له نفسي ولا قدمني إليه أحد من أصدقائنا المشتركين ... كنت أكتفي عموما في المناسبات العامة بالمتابعة والاستماع ولا أتحدث جانبيا إلا مع من أعرفهم ...

أتابع باهتمام ما يكتب وأستمع إلى حواراته، وأظنه يقرأ أحيانا ما أنشر ... هاتفته مرة واحدة معزيا في وفاة والدته ... وكان لدي حرص لحضور الجنازة ... لكن لم يتيسر ذلك فاكتفيت بالمهاتفة.

بالتأكيد فإن التواصل المباشر مع الناس يزيد من معرفتك بهم ... لكن عدم حصوله لا يكون مانعا من تكوين فكرة كافية عن الشخص خاصة في زماننا هذا، حيث أنك تستطيع أن تقرأ للإنسان ليس فقط نصوصه ذات المنزع الفكري "الجاد"، وإنما بإمكانك متابعة الخواطر التي ينشرها والتعاليق التي يبادلها أصدقاءه في صفحته أو صفحاتهم، بإمكانك أيضا الاستماع إليه ومشاهدة انفعالاته ولغة جسده وما إلى ذلك ... مما يكون لديك فكرة عن الانسان تتجاوز قراءة نصوصه أو كتبه.

يعود تاريخ "انتباهي" لسي الأمين البوعزيزي إلى حملة الدكتور المنصف المرزوقي سنة 2014، حيث تابعت عن بعد الفيديوات التي نشرتها الحملة، ومنها إن لم تخني الذاكرة تسجيل لاجتماع في جربة وآخر في سيدي بوزيد ... وجدتني أمام إنسان غطت لغته مبنى ومعنى صوته الذي تغلب عليه "الحدة" وجسده النحيل ... سلاسة في الكلام كأنما يقرأ من متن حفظه أو شاشة أمام ناظريه، وعمق في المضمون يذهب بك إلى باطن المعنى بل إلى جذوره ... كل ذلك في ذكاء في الطرح، وحضور بديهة، وتحفز للمنازلة ... لا بل إنه يتكلم وكأنه في أرض معركة ممتشقا سيفا ومجنزرا بخنجر ومتوشحا درعا وعلى كتفه قوس ونبال ... تشعر بكل ذلك ... لكنك تنتبه إلى أن ما يحمله ليس من حديد وخشب وجلد و إنما من قول بليغ ... وثقيل ... من بيان وبرهان وقليل من العرفان ...

عندما تستمع لسي الأمين أو تقرأ له، فأنت أمام قارئ نهم، وقارئ ذكي، وقارئ فاحص، وقارئ ناقد ... يعرف ما يختار وينتقي، ويعرف ما يضيف ويستدرك ...

ولأنه يجمع بين عقل ذكي وقلب حي، فهو قد اختار مبكرا أن يكون مشتبكا مع الواقع ... ما يشده إلى الواقع هو التفكير الدؤوب في تغييره ... هو التربص الدائم لكشف حيله وشباكه .. هو التحفز الدائم تجاه ألاعيبه، والتشكيك الدائم في صفحاته الظاهرة المغالطة لحقبقته المخاتلة والمداهنة ...

وقد يكون لانجذاب سي الأمين للإتجاه القومي منذ صباه صلة ما بطبيعة شخصيته، كما يكون لسنين "التحزب القومي" دور في مزاجه النفسي، خاصة أن جوهر الانتماء القومي شعور نفسي أساسا ... وليس في ذلك أي عيب ... ولكل منا مزاج خاص، تشكل من روافد متعددة، وهو يلعب دورا كبيرا في تعاطينا مع الحياة فكرا وممارسة ...

تلك هي شخصية سي الأمين كما بنيتها أنا في ذهني حوله ... لذلك لا يزعجني ردة فعله أحيانا حتى وإن لم تعجبني ... ولا يزعجني اختلافه معي ... فأنا أدرك أنني لست هو، وهو ليس أنا ... ويحدث أن أرى في ردة فعله ما لا أوافقه فيه، ولكن ذلك لن ينزل بمنزلته عندي ... نضالا لا يرقى إليه أدنى شك، وحبا للناس وتقديرا،، وروحا ديمقراطية لا تشوبها شائبة، ودفاعا مستميتا عن حق الآخر المختلف عنه مهما كانت درجة الإختلاف معه، وصراحة وبعدا عن المداهنة ...

سي الأمين صاحب رؤية متكاملة، ينافح عنها ولا يتردد في تعميقها وتطويرها، وصاحب مشروع يدافع عنه، ولا يخشى في ذلك لومة لائم، وصاحب موقف لا يتخلف عن الاصداع به، مهما قل انصاره ولو بقي وحده، و هو من صناع الرأي .... ومفخرة لتونس ولنا جميعا ... وكان أحد أضلاع مواطنون ضد الانقلاب، الذين تميز كل منهم بزاوية نظر قيم عليها، وينافح عن الثورة والوطن من قبلها ...

أحرى بنا جميعا أن نخفض الجناح لبعضنا، وأن ننزل الناس منازلهم، وأن لا نفرط في طاقاتنا، وأن ندير اختلافاتنا وهي كثيرة بالتواصي بالحق والصبر، وأن نقبل اختلافاتنا الفطرية وأمزجتنا المتعددة، فأحيانا تجد سبب الاختلاف الذي قد يتصاعد، مجرد اختلاف أمزجة، وطريقة رد فعل يراه مرسله عاديا ويراه الآخر كبيرة من الكبائر !

أكتب هذه الكلمات وأنا على يقين أن سي الأمين ليس في حاجة إليها ... وأن بعض أصدقائي الذين قرأت لهم موقفا ما بسبب اشتباك عرضي مع سي الأمين هم أرجح مني عقلا وبعضهم تعلمت منه ... ولكنني حريص على أن أساهم في تذكير بعضنا البعض أحيانا ببعض البديهيات التي تحجبها أحداث عارضة بسبب كلمة أو جملة في غير محلها أو التباس في موقف ما ....

كما أكتب هذه الكلمات أيضا كما كتبت في مناسبات سابقة حول أشخاص آخرين بدا لي أن ذكر مناقبهم والاعتراف بالفضل لهم واجبا. وأنا أدرك أن سي الأمين وأمثاله أرفع من أن يحتاجوا إلى من "يؤيقنهم" ... ولعله ستزعجه هاته الكلمات ... فمع تفهمي لرأي الاستاذة إيناس حراث في البعد عن "الأيقنة" ... فإننا نحتاج أيضا إلى تقدير الناس والاعتراف بجهودهم وإنزالهم منازلهم، وأن نشيع في الناس مثل هذه القيم المحفزة على العطاء و الإيجابية، والدافعة إلى تعميق التعاون على خير هذا الوطن الذي تسعنا أرضه وتقلنا سماؤه.

تاريخ أول نشر 2024/9/26