الاختلاف في الرأي بين الناس ضرورة وليس اختيار، تماما كالاختلاف بينهم في الخلقة والبصمة، حتى أن من يدعون توائم حقيقيون وجودهم نادر ولا يعني انهم نسخ مكررة.
كل ذلك يدعونا لتفهم الاختلاف والصبر عليه واحترام اصحابه .
المؤسف أن بعض من يصرون على اعتبار "العقل والعقلانية" مفتاح الرأي السديد والموقف السليم، ينزلقون الى اعتبار ما يرونه هم عقلا وعقلانية هو العقل والعقلانية ... هكذا بأل الاستغراقية .... لا ينطقون بذلك، ولكن حماسهم المشبوب وقسوة نقدهم - الذي لا يعني بالضرورة ان يكون مشتملا على ألفاظ نابية - واطلاقية احكامهم المتخفية وراء صياغات لغوية تظلل ولا تخفي ... كل ذلك يجعلهم للاسف يسقطون في ما يعتبرون انفسهم يحاربونه.
بعضهم لا يتوانى عن إشهار سيف "التكفير" لكل قول لمجرد اعتماد صاحبه على معاني دينية في مدح هذا أو ذم ذاك ... وهو استعمال مفرط يتحول مع الاصرار عليه الى نوع من " التكفير" الفكري والسياسي.
ليس شرطا أن يكون في كلامك ألفاظا مباشرة نابية حتى يعد كلامك نابيا ... وقديما هجا الحطيئة الزبرقان بكلام لا يحمل ظاهره ما يسوء ولكن باطنه أمضى من السيف فقال الزبرقان ما هجيت ببيت قط أشد علي منه.
قال الحطيئة:
دع المكارم لا تحفل بساحتها ### واقعد فانت الطاعم الكاسي
بعيدا عن التباهي بالعقل والعقلانية .... نحن بشر تحجب عنا "عين الرضا" مساوئ من نحب، وتكشف لنا "عين السخط" مساوئ من وما لا نحب كما قال المتنبي:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ### ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقد تهوِن عين الرضا "الكبائر" ... وقد تستعظم عين السخط " الصغائر" .... لا يشذ عن ذلك إنسان ... بقطع النظر عن حجم استسلامه لـ"هوى قلبه" ... وقدرتنا على الاستعمال الامثل للغتنا محدودة مهما امتلكنا ناصيتها ... فيقع منا الاجحاف هنا أو هناك ...
علينا أن نحترم الناس ونحترم آراءهم مهما بدت لنا شاذة ... ولعمري فإن الدارسين للعلوم الانسانية من المفروض أن يكونوا أقدر الناس على التعامل، باعتبار ما سلحتهم به من سعة في الافق المنهجي في تناول المضامين. أحيانا يبدو لي غريبا جدا أن يتعامل دارس لعلم الاجتماع و الانتروبولوجيا ومتشبع بمناهجهما التحليلية التي تركز على البعد "المجتمعي" غير "الفردي" للظواهر كالبنيوية والوظيفية والنسقية وحتى المناهج الاخرى البينية ... كيف يسقط في التأويل الضيق للظواهر وخاصة في الحكم عليها أحكاما احيانا غاية في الاطلاق، تجعله لا يختلف كثيرا عمن ينقدهم واحيانا يكون أكثر منهم.
ليس في ما أقول تعالما على أحد .... كلنا يسقط احيانا في مثل هذا السلوك ... بكل صدق اعجب احيانا من بعض الاصدقاء كيف يستطيع قراءة كلام البعض أو الاستماع الى حديثهم واكثر من ذلك محاورتهم بل والتلطف في محاورتهم ... هل هذا السلوك مني سلوك يختلف عمن أنقدهم ؟ في الجوهر لا يختلف ... ربما يختلف من حيث اسلوب التعاطي ... لكنني لم احمل ولن احمل على من لديه هذه الزاوية في التعامل مع اولائك واعرف أن الانسان بطبعه لا يملك القدرة على النظر من كل الزوايا وحسبي ما استطيع النظر منه ولغيري مطلق الحرية في النظر من زوايا أخرى ... وفي كل خير .... كان ولا زال أخونا وصديقنا العجمي الوريمي مثالا في هذه القدرة على التعامل مع الاخرين مهما بدت أفكارهم "شاذة" و"عنيفة" و مهما "خططوا وتآمروا " ... أشهد له بسعة الصدر واحتمال الأذى والصبر على الرأي المخالف وفي نفس الوقت حضور الذهن والذكاء الوقاد وحسن الظن وهو من أولائك الذين يصدق فيهم ما قاله عمر ابن الخطاب عن نفسه " لست بالخب ولا الخب يخدعه"...
ليس في كلامي أي دعوة الى التضييق على النقد والنقد الذاتي والحوار الحر البناء ... ولكنه تذكير بضرورة تنسيب آرائنا وأفكارنا ومواقفنا واحترام آراء الآخرين ومقاماتهم .... علم النفس يدعونا الى معاملة الصغار معاملة الكبار ... فكيف بمن عركتهم السنين وتمرغوا في وعثائها وتجاوزا عمر المراهقة .... لكل زاوية نظر ولكل له مع الحياة قصة ولكل شخصيته المكتملة ... ولكل كيانه الكلي الذي لا يستقيم التعامل معه فيه من خلال ما ينطقه "عقله" البادي لنا ... ولكل "إيديولوجيته" و "دينه" .... حتى أولائك الذين يحملون على الايديولوجيا والدين ليلا نهارا ....
وسأختم بتقرير "حقيقة" تاريخية و واقعية لدي .... كان الاسلاميون منذ ظهروا ولا زالوا - وتقديري أنهم سيبقون - الاكثر استعدادا للتعامل مع الرأي المخالف والبحث عن المشترك داخل فضائهم وخارجهم في ساحة الوطن .... ولا ينقص من هذه الحقيقة وجود بعضهم أو بعض أجنحتهم خلاف ذلك .... فتاريخنا مليئ بتلك الظواهر وحاضرنا أكثر امتلاء ... ولا توجد صعوبة في فهم ذلك سوسيولوجيا ...
"عقل" الاسلاميين تكون مبكرا على قبول الاختلاف ... لم تستطع اي "مدرسة اسلامية ودعوية" السيطرة عليه ... انفتح بسرعة على المدارس كلها ... داخل الساحة الاسلامية وخارجها .... المدارس الفكرية والحركية والتنظيمية والسياسية .... لم يصمد المنهاج التربوي الاخواني الذي كان عماد الخلايا التكوينية الا لسنوات معدودات ... وكانت المكتبات الخاصة لعموم الاسلاميين شاهدة على تنوعها من الاسلامية للقومية للماركسية وغير ذلك ..... في معرض الكتاب كان الاسلاميون هم الظاهرة الحقيقية، حيث يقبلون على كل الدور ويشترون منها جميعا، في حين ترى غيرهم متهافتون على دور مدارسهم الفكرية .... هذه حقائق وليست ادعاءات ....
على المستوى العملي حدث ولا حرج ... ولولا أنني أطلت كثيرا لقدمت وبسطت .... وسأفعل ذلك إن شاء الله ....
تاريخ أول نشر 10\5\2022