تدوينة الصديق نورالدين ختروشي التي صدرها بقائمة طويلة من الأسماء سرعان ما اتضح غياب أسماء عديدة أخرى فيها من أبناء المشروع الاسلامي من "أهل القلم" يدعو فيها إلى الالتقاء حول التفكر في التجربة والاشتغال على المستقبل، لقيت كما هو منتظر احتفاء من العديد ممن ذكر في القائمة ومن خارجها. وإذا كان لبعض التعاليق روح "النوستالجيا" لا غير، ولأخرى رغبة في التفصي من ماض مشترك، ولثالثة الاحتفاء التقليدي المرتبط بعدم لياقة تجاهل صاحب التدوينة ووجود اسم المعلق في قائمتها، فإن لما أثارته التدوينة مسؤولية ثقيلة تتجاوز المجاملات والأحاديث المرسلة.
غني عن التأكيد أن القائمة (الناقصة) المذكورة وإن كانت التقت في بواكير نشأتها على صورة واحدة وتمثل يكاد يكون واحدا للمشروع الاسلامي، قد تفرقت الآن في شعب عديدة، بعضها يقف على حواف المشروع الذي احتضنه زمن النشأة وبعضها ربما يقوم بجهد مضن للتمايز بل والاختلاف عنه.
لكن مع كل ذلك فالقاسم المشترك لا زال كبيرا يحتضن الجميع حول شعار كبير اسمه المشروع الاسلامي حتى وإن تغيرت عناوينه تفصيلا سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا.
مع هذا القاسم المشترك هناك قاسم مشترك آخر هو أن "أهل القلم" هؤلاء يمكن اعتبارهم من "ظالمي أنفسهم" و"ظالمي القلم" و"ظالمي وطنهم وأمتهم". هؤلاء الذين نشؤوا وشبوا وبعضهم شاب باعتبارهم عناصر فاعلة في حركة وضعت بصمتها في مسيرة نصف قرن من الزمان، هم على العموم أكثر الناس "كسلا وبخلا" في الكتابة عن التجربة والشهادة عليها وعلى مراحل مفصلية من تاريخ البلاد. مع مفارقة غريبة أيضا هي أن تلك الحركة قد كتبت آلاف الصفحات بأيدي هؤلاء بقيت حبيسة أرشيفات مهملة، بل وضاع وتلف الكثير منها في أتون المواجهات المتكررة مع النظام، وقد يكون أفضل أرشيف لإنتاجها هو ما تمتلكه وزارة الداخلية.
وإلى جانب "البخل والكسل" تستبد بالكثير منهم المثالية المعطلة لكل إنجاز، وقلة الصبر على الوصول بالمشاريع إلى نهاياتها الطبيعية. فكم من نصوص توقف أصحابها عند منتصفها، وكم من مشاريع توقفت عند مقدماتها، وكم من دراسات لا تحتاج غير جهد يسير لإرسالها للنشر.
لكن الثقل يزداد عندما ندرك أن شهادات حية قد طويت بوفاة أصحابها وأخرى يتهددها الطي بالوفاة وبتلف الذاكرة.
لا أريد أن أتجنى فهناك ظروف موضوعية أعاقت أو ساهمت في إعاقة كثير من الجهود برغم القرارات المتتالية التي تعبر عن إحساس بضرورة الاستجابة للتحدي المضموني.
فقد كان من قرارات المؤتمر التأسيسي للجماعة الاسلامية بتونس سنة 1979 بعث "مركز دراسات" وقد أنجز سنة 1981 وقبل الاعتقالات التي طالت قيادة الحركة مشروع مركز دراسات، ثم طرح في سنة 1982 "مشروع الأولويات" الذي كان نقلة نوعية في الوعي لكنه تعثر وأنجز بشكل جزئي على وقع المحاصرة والاستهداف والاعتقالات التي توجت بمواجهة 1987. كما قامت مجموعة من الطلبة في فرنسا بتأسيس مركز "أبعاد" للبحوث والدراسات، كانت محاولة من خارج مؤسسات الحركة تحمل هم البحث والنظر وسؤال البديل.
وفي سنة 1989 تكون المكتب المضموني الذي استأنف المهمة التي أجهضتها المواجهات التي انطلقت خريف 1990. وأنشأت في التسعينات وما بعدها مبادرات مختلفة في نفس الإطار وكلها آلت إلى مصير مشابه لما قبلها.
ورغم ما أتاحته تجربة السنوات العشر من فرص ثمينة وذهبية لتأسيس مؤسسة أو مؤسسات مضمونية تستجيب لمتطلبات المرحلة وتسد ثغرة بقيت مفتوحة منذ تأسيس الحركة، خاصة وقد توفر لها المناخ الملائم لشروط البحث العلمي سواء للانتاج المعرفي أو لعقد شراكات مع مؤسسات بحثية وعلمية شبيهة، إلا أن الانشغال بالهم السياسي اليومي لم يترك مكانا لعمل استراتيجي يحتاج الهدوء والتفرغ وباقي المتطلبات العلمية التي تفرضها المراكز المضمونية الجادة.
أثبتت العشرية الماضية النقص الفادح الذي تقدمت به حركة النهضة للسلطة على الصعيد المضموني في كل ما يتعلق بالمشاريع المضمونية لإدارة المجتمع والدولة، فلم يكن لديها عدا الشعارات العامة ما يمكن اعتبارها بدائل أو مشاريع متكاملة.
كما لم تستثمر كل تلك السنوات في تقديم سرديتها حتى في ما يخص تاريخها وكسبها وتجربتها. ويمكن القول بصفة عامة أن ما تزخر به ساحة الفكر والنشر حولها "كتب عنها ولم تكتبه عن نفسها" وأن ما كتبته عن نفسها نزر يسير لا يكاد يذكر خاصة كنصوص بحثية وعلمية جادة.
واليوم هناك ثلاث مجالات كبرى للكتابة تنتظر من أهل القلم من أبناء المشروع الاسلامي /الوطني/ المحافظ الانخراط فيها أفرادا ومجموعات ومؤسسات، وكل تراخ أو تأخر في الإنجاز فيها يعد ظلما مزدوجا يرتكبه أصحابها.
المجال الأول يتعلق بذاكرة الحركة الاسلامية بتونس وتجربتها على جميع الأصعدة ومن مختلف الزوايا.
والمجال الثاني هو تجربة الحكم وما أنجز وما لم ينجز فيها وهي تجربة توجه إليها الآن الكثير من السهام الظالمة والمشوهة ويكتب عنها بالاختلاق والتلفيق، والفاعلون من أبناء المشروع الاسلامي الذين كانوا في الحكم يقراؤون ويستمعون وينظرون ولا يتكلمون فيظلمون الحقيقة ويظلمون أنفسهم ويظلمون الوطن ويظلمون الأجيال القادمة التي ستحتاج شهادتهم.
المجال الثالث هو مجال المشروع الاسلامي /الوطني/ المحافظ كبدائل نظرية وعملية. هناك جهود فردية وجماعية مقدرة قام ويقوم بها الكثير من الفرقاء، فلماذا يغيب الاسلاميون عن الساحة؟ أمن قلة كفاءة وعددا هم ؟ لا.
كل الأعذار مرفوضة أمام عدم الإنجاز ... فمتى نتحمل المسؤولية ونستدرك أنفسنا ونؤدي الأمانة؟
ليست هذه الدعوة تنظيمية وحزبية فلا يملك صاحبها موقعا يؤهله للقيام بذلك، ولا يتوهم فيها اشتراك الجميع في نفس الأفكار ... لكنه يرى أن أي كتابة موضوعية هي مساهمة في تجلية الحقيقة وحفظها وسلامة نقلها للأجيال القادمة، وأي كتابة جادة في الرؤية والمشروع والبديل ستكون إضافة مهما كانت اتجاهات صاحبها.
تاريخ أول نشر 2024/6/2