عشنا في المغرب في بداية تسعينات القرن الماضي، ورأينا كيف تتصارع الاحزاب في ما بينها، وكيف يثار الغبار تحت قبة البرلمان بين المعارضة و"الاحزاب الحاكمة" والحكومة. ولكننا كنا نعرف وكان المغاربة يعرفون أكثر منا أن كل تلك "المعارك" لا تعدو أن تكون صراعات وهمية، وفي أحسن الحالات صراعات مع ظل "الحاكم بأمره" لا معه. يتواطئ الجميع على ذلك، يدبجون الخطب، ويسودون الصفحات، ويملؤون المنابر صياحا، ويعقدون الجلسات المفتوحة والمغلقة، ويرتبون المناورات والصفقات، وكأن الامر جد. وكل يتحرك في مساحة محددة، يرضى نفسه فيها بالانتصارات الوهمية على حكومة لا تحكم، وعلى احزاب إدارية إما صنعها "الحاكم بأمره" أو "اخترقها" وأدخلها بيت الطاعة. من كان يتابع "صراخ" فتح الله ولعلو من قيادات الاتحاد الاشتراكي في البرلمان، أو المقالات النارية لكتاب صحيفة الاتحاد الاشتراكي، أو "انتفاضات" نوبير الاموي العمالية، ناهيك عن الشبيبة الاشتراكية، يقول أن المغرب "سيسقط" قريبا في "قبضة" الاشتراكية.
لكن ... لما قرر "الحاكم بأمره" التمهيد لحكم ابنه، أعلن "التناوب"، ودعى عبد الرحمن اليوسفي الذي حكم عليه يوما ما بالاعدام الى رئاسة الحكومة .... استضافه في قصره العامر ليجد امامه اثنين من زعماء الحزب يستقبلانه وهما عبد الواحد الراضي والحبيب المالكي ... حركة أراد من خلالها "الحاكم بأمره" أن يقول لليوسفي نحن شركاء في الحزب لا بل ان الحزب حزبنا .... صبرنا على "طيشه" حتى روضناه وادخلناه بيت الطاعة.
فهم اليوسفي الرسالة .... وفي عمره الذي تخطى الستين، لا يهديه عقله الا "للحكمة" وهي الرضا بالموجود والتحرك في المتاح و "1000 خطوة ولا تنقيزة".
جاء بن كيران، الذي اضطر "الحاكم بأمره" لادماجه قبل أن يذهب به "طيشه". فتجرأ على ما لم يتجرأ عليه من قبله .... لم يسم الاشياء بأسمائها ... ولكنه اضطر الى أن يتحدث عن الخصم الحقيقي موجها اليه أصابع الاتهام من خلال الحديث عن "التحكم" وهو يقصد بدون شك "المخزن"، في جرأة لم يقترب منها غيره، عدا المعارضة الراديكالية غير المعترف بها، والتي تعيش على هامش الساحة. جرأة جعلت "الحاكم بأمره" يقرر وضع حد لها بكل الطرق الممكنة، معتمدا على حنكة وخبرة مخزنية عمرها ألف عام.
هذا الشاهد "الطويل" ، أردت من تقديمه الاشارة الى أن "الصراع" الذي يخاض اليوم ضد الانقلاب، هو في الحقيقة صراع مع ظله وليس معه مباشرة. وهو صراع يستنزف من الوقت والجهد ما ينهك القوة، ويضعف المبادرة، ويفتعل معارك جانبية لا تساعد على الوصول الى الهدف، في الوقت الذي يوفر فرصا للانقلاب وهامشا للمناورة وتشتيتا للجهود.
إن "قيادة الانقلاب" لا تتسامح مع من يتحدث بوجه مكشوف، ولغة مباشرة، واتهام صريح. لا تتسامح مع من يتجرأ على الاقتراب من "حمى" الانقلاب و "حماته" ... لا تتوانى أبدا في الضرب على يديه ... هذا ما لاحظناه مباشرة من التعامل مع نواب وقيادات ائتلاف الكرامة وياسين العياري والخياري .... وو البحيري.
في هذا الاطار فإن كل التركيز الذي يحضى به قيس سعيد على اعتبار وكأن الانقلاب صناعته الخالصة، هو في الحقيقة صراع مع ظل الانقلاب وليس مع الانقلاب ذاته .... وهب أن قيسا له نصيب في الانقلاب ... فماذا يمثل ذلك النصيب امام النصيب الاوفر الذي يملكه من يقود الانقلاب حقيقة ؟
لم يخطئ ابويعرب المرزوقي حين يشبهه بالدمية اذ أن جزءا مهما مما يأتيه لا يمكن أن يفهم إلا في ذلك الاطار.
لا مجال للشك لدي أن من قاد الانقلاب هي الدولة بعقلها "الويستفالي"، وقوتيها الصلبتين، وإدارتها العميقة، وشبكة نفوذها المالي والاعلامي و"منظماتها الوطنية" .... بالتأكيد لا يعني ذلك أن هناك انسجاما تاما، ورأسا واحدة محركة، وإجماعا مصلحيا بين كل تلك المكونات .... كما أنها ليست بمنآى عن النفوذ الاجنبي، لا بل انها ترزح تحت تأثيره وتخضع لتجاذبات بل وصراعات اطرافه.
تقدم الصراعات مع ظل الانقلاب لا معه على انها دليل حكمة وحنكة وكياسة، ولكنها في الحقيقة "تكتيك" مخاتل يوقعك غالبا ان لم يكن دائما في "احضان" الخصم ليفرض عليك حلوله / سيناريوهاته التي أعدها أو يعدها في اتون الصراع بإحكام يجعل التحولات مهما كانت مظاهرها الاستعراضية لا تخرج عن أهدافه .... لذلك .... من هذه الزاوية الدقيقة لم يخطئ قيس/المنقلب ( يا للسخرية)، حينما ردد أن تاريخ 14 جانفي هو تاريخ إجهاض الثورة .... الاحداث والقرارات والخيارات التي "قررت" يومها وما بعده تؤكد ذلك ... وما يحدث الان بعد 25 استمرار لذلك العقل المخزني لدولة حديثة نتجرع سمها المغلف بالعسل.
تاريخ أول نشر : 24\2\2022