قضى مواطنون ضد الانقلاب أشهرا من أجل تقريب الهوة بين الاحزاب السياسية المحسوبة على خط الثورة، ودعوتها للوحدة من أجل الاتفاق على برنامج وحيد هو دحر الانقلاب. ما دامت تعتقد جميعا انه انقلاب وما دامت متمسكة جميعا بالديمقراطية وبالدستور. ولكن للاسف لم يتحقق بالصورة المنتظرة ما كانت ترجوه.
وقد ساءلت نفسي : من أي طينة هاته النخبة السياسية ؟ الهذا الحد تستحكم العداوات ؟ ألهذا الحد يصل بالانسان تفكيره ؟ يرى الوطن يغتال في وضح النهار، وهو مستنكف عن مد يده لمن سينقذه وينقذ نفسه معه .... ألهذا الحد يمكن أن ينتهي بالانسان تفكيره : ما دام خصمي سيغرق قبلي، فإن هناك أمل بأن أنقذ نفسي بعد الاطمئنان على غرقه حتى ولو كنت في الرمق الأخير ... يعطي الأمل لنفسه في الرمق الأخير، ولا يعطيها لفرصة إنقاذ مؤكدة، طالما انه لن ينجو وحده، وطالما أن الذي سينجو معه خصم لدود ... عجبا لهم كيف يستوي خصم مع عدو ... بل كيف يفضل العدو على الخصم !!!!
حالة فريدة ومستعصية من خراب العقول والضمائر ....
لطالما أشاد التونسيون بمدنية صراعاتهم وثقافة نخبتهم. ولكن ألا ترون معي أن نخبة بمثل ما عليه هذه النخبة، من فساد العقل والقلب، وضياع الحكمة والضمير والخلق النبيل، لهي أشر وانكد من نخبة ظاهرة العداوة، خشنة الوسائل، ولكنها تفعل كل ذلك بشهامة ورجولة لا بالحقد والضغينة ؟
رحم الله الشافعي إذ يقول :
كل العداوت قد ترجى مودتها ### إلا عداوة من عاداك عن حسد
لا ينفع القلوب المريضة العقول النيرة التي قد تمتلكها، فسواد القلب لن تضيئه أنوار العقول مهما عظمت، ذلك انها لا تعمى الأبصار (ولا العقول) ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
كانت صراعات الناس في ما مضى فيها رجولة ونخوة وشهامة، لا يستنكف فيها الخصم من الاشادة بخصمه، والنزول عند رأيه إن تاكدت له الغلبة. شيى ما مما كانت العرب تسميه "شرف الخصومة". لكننا الآن للأسف نواجه صنفا من النخب، نزلوا قاعا لم ينزله رجال عصابات النهب والسلب، ففيهم رجولة وشهامة تفتقدها ساحات الصراع السياسي اللعين الذي نعانيه.
تحضرني بالمناسبة واقعة عشتها في ألبانيا. سنة 97 و 98 وصل الصراع على السلطة حد التقاتل بين الفرقاء بالسلاح، وفتحت الثكنات ونهبت مخازن السلاح، واستعملت ضد بعضهم البعض، وتدخل الأوروبيون لإخماد الفتنة، وتوقفت نذر الحرب الأهلية، ولكن العداوات بقيت مستحكمة، ووصلت إلى الاغتيال السياسي، فاغتيل في سنة 98 أحد زعماء الحزب الديمقراطي، الحزب الذي افتكوا منه الحكم بالتمرد المسلح في مارس 97، وخرج السلاح من مخازنه من جديد، وسقطت الحكومة وفر رئيس الوزراء لبلد مجاور، وكادت تندلع حرب جديدة.
ولكن بمجرد ما اشتعلت الحرب في كوسوفا - أكثر من 90% من سكانها ألبان هم أيضا - في مارس 99 ، حتى وقف الجميع صفا واحدا، واجتمع في ساحة اسكندر بيك، وسط العاصمة تيرانا، الإخوة الألداء صفا واحدا في تظاهرة تأييد للكوسوفيين، وعبروا جميعا عن استعدادهم للوقوف لحماية بلدهم ولدعم ومناصرة إخوانهم، واختفت العداوات، وأقبلوا جميعا كل من موقعه يعملون في قضية لا تقبل انقساما.
ربما يقول قائل أن الألبان قد تصرفوا التصرف الطبيعي لأي مجموعة بشرية، فهل يا ترى نخبتنا عز عليها أن تتصرف التصرف الطبيعي الذي تتصرفه أي مجموعة بشرية عندما ترى المؤامرة/الانقلاب يأكل الأخضر واليابس ؟
هل يعقل أن تترك نخبتنا الانقلاب ينفذ مخططاته الدنئية، وهي تعرف أن التحامها ووقوفها صفا واحدا كفيل بقلب المعادلة ؟
تاريخ أول نشر 2022/6/23