من ذاكرة الفضاء الأزرق ... في مثل هذا اليوم من سنة 2022
عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه قال : "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"
ليست السيناريوهات افتراضات رياضية، وإنما هي ممكنات واقعية لها محدداتها وفواعلها الذاتية، التي تلعب دورا رئيسيا في شروط تحققها في الواقع، أكثر من العوامل الخارجية عنها، والتي تتجلى في عوامل ضعف السيناريو أو السيناريوهات المقابلة.
فما هي محددات وفواعل السيناريو "الرمادي" لتونس المستقبل ؟ تونس بدون حرية وكرامة ، بدون تحرر وسيادة ....
أحيانا، في خضم تزاحم الاحداث الثانوية وحتى ما دونها، نذهل عن استحضار المسلمات، وتغرينا وتلهينا جزئيات المشهد وتفاصيله، التي تتضخم أمام أعيننا وتبرز لنا كأحداث "جسام" و"تحولات مفصلية" وما هي بذلك.
من المسلمات / المحددات أن الانقلاب صنع على عين القوى الدولية النافذه في تونس والقوى الاقليمية التابعة، كل بحسب موقعه وحجمه. تلك القوى جميعا، بقرون استشعارها المبثوثة في كل زاوية من زوايا البلد، بل بأعوانها المبثوثين في مفاصل الدولة والمجتمع، ليس فقط تراقب وتتابع ما يحدث عن قرب، وانما تصنع ما يحدث، وما سيحدث. ومن ذلك هذا الانقلاب الذي لا يمكن البتة أن يكون خارج غرفة "التحكم والسيطرة". وكل ما يبدو مشككا على سطح الواقع من خلال ردود الافعال، ما هو الا من قبيل: "ما جعل الكلام إلا لنخفي ما نريد" أو من قبيل "تزاحم الفواعل داخل البنية الواحدة".
اذا فالانقلاب خيار مدروس، مبرره في تقديري الآتي:
- عدم استعداد القوى الدولية جميعها القبول بنظام ديمقراطي يجعل الدولة تحت رقابة الشعب . يراقب حركاتها وسكناتها، يراقب اتفاقياتها والتزاماتها، يراقب علاقاتها الخارجية، ويراقب القروض التي تؤخذ باسمه، والصفقات التي تعقد نيابة عنه. كل التحاليل والدراسات التي كتبت عن تكلفة الانظمة الديكتاتورية الباهضة على تأمين مصالح القوى الكبرى، كانت سيكون لها معنى لو أن أنظمة الثورة ضمنت لها ما دون ذلك. وهو ما لم يحصل، لا من حيث ضمان القدرة على تمرير ما يريدون، ولا من حيث ضمان الاستقرار في البلد، الذي هو شرط ضروري لتحقق المصالح، وتجنب المخاطر وعلى رأسها الهجرة السرية.
- عدم امكانية إحداث اختراق في النظام/المنوال التنموي المتوارث منذ الاستقلال. والذي استقر على تواطئ موضوعي بين العائلات المتنفذة التي تسيطر على عالم المال والاعمال والنقابة العمالية. هذين الطرفين الذين يبدوان متصارعين ولكنهما موضوعيا ليسا كذلك. فهاتين الفئتين هما اللذين فرضتا هذا المنوال وهما من تحافظان عليه. وليس في امكان أي قوة سياسية مصارعتهما. هذا النظام/المنوال الذي هو من مخلفات دولة لم تعد موجودة منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، وهي الدولة الراعية. فقد ماتت تلك الدولة فعليا ومات زمنها، ولم تبق الا منافعها التي تتمثل في "السوق المغلق" الذي تتمتع بريعه العائلات المتنفذة، وترفض تغييره ومقاسمة غيرها فيه. في نفس الوقت الذي تمارس فيه النقابة "عملا نقابيا" على دولة لم تعد موجودة، ولم يبق الا بعض مؤسساتها العمومية التي تحولت الى "ضرع ينزف دما"، ومع ذلك تعتبره النقابة "لبنا خالصا لذة للشاربين".
اما صندوق التعويض فهو نهب لكليهما، ولربما استفادت منه العائلات/العصابات أكثر من المواطنين.
أمام هذا الوضع، فإن الغرب وعلى رأسه أمريكا وفرنسا لن يجد حلا لهذا الوضع أفضل من وضع يحكمه شخص قادر على تنفيذ ما يريدون، أو هم أقدر من خلاله على فرض الخيارات التي لم تجد طريقها للتنفيذ في تونس، وهي كسر احتكار السوق وفتح البلاد لمتطلبات السوق النيوليبرالي الذي يجتاح العالم كله، وهذا بالضرورة يقتضي تخليص البلد من آخر المنظمات النقابية التي حولت البلاد الى رهينة في يد عصابة مصالح لا تختلف في الجوهر عن عصابة العائلات المتنفذة.
وعلى عكسنا نحن، فإن الغرب لا يدخل هذا الخيار بدون تاريخ وتجربة، إنه خيار جربه في كثير من البلدان ويملك القدرة على تنفيذه والتحكم في مآلاته.
تلك هي بتكثيف شديد محددات هذا السيناريو القاتم. وقيس سعيد فيه ذو وجهين، وجه الشخص الذي يريدون، ووجه الشخص الصاخب المستفز والمثير للسخرية وحتى التقزز، بعد أن نزع كل المسوح التي أوصلته للمنصب. لكن الانقلاب لم يكن فيه وجه قيس فقط، لقد كان فيه وجه المؤسسة العسكرية والامنية التي أمنته ولا زالت تؤمنه، ووجه الإعلام الذي سوق له ولا زال في مجمله يدعمه إما مباشرة أو بشكل غير مباشر من خلال ترذيل خصومه، ووجه الديبلوماسية الغربية التي تمارس بحرفية وسائل التعمية والتشتيت والتخدير.
ما يرجح هذا السيناريو، هو حال الترهل التي تعيشها الأحزاب والقوى المدنية وعلى رأسها الحزب الأساس وهو النهضة، و حال التشتت، وحجم الاختراق الكبير في صفوفها لمنع أي إمكانية لتوحدها. تتحرك غالب الاحزاب والقوى التي تسمي نفسها حداثية بأمل جر الاتحاد إليها، كي يحقق لها التوازن في مواجهة النهضة التي يستوي الخوف منها بمستوى التخوف من الانقلاب ذاته، ولكن الاتحاد يدرك أنه في مرمى السهام، وما يهم بيروقراطيته بالاساس هو تأمين مصالحها وتأمين رقابها.
وما يزيد الطين بلة، انكشاف ظهر تلك القوى من حيث عدم وجود قوة دولية ولا حتى اقليمية يمكن أن تسند ظهرها إليها.
والشعب .... أين الشعب ؟
لا معنى للشعب بدون قواه .... فإذا ترهلت ترهل ... واذا تشتتت تشتت ... واذا اخترقت اخترق...
هكذا يبدو هذا السيناريو رماديا ... بل قاتما .... لن أعقب عليه ... سأتركه كما هو بدون "لكن" .... وقد أزيد لأقول أن نسبة "التمكين" له عالية، ولن تصدها الا تحولات جيوستراتيجية كبيرة في الاقليم أو في العالم .... "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ...