التاريخ يكتب نصوصه الأولى الذين يسطون ... لكنه يثأر لمن كتبه بروحه وشغاف قلبه ودمه وعرقه يوما ما ....
بالأمس (4\2\2023)، كنت مع حالة من حالات الثأر لمن عمل "سراق التاريخ" على طمس جهادها ودورها الفاعل في الإصلاح الثقافي والتعليمي والاجتماعي والسياسي في تونس ما قبل الاستقلال ... من لعبت دورا بارزا واستثتائيا في "تحرير المرأة التونسية" . شأنها في ذلك شأن القسم النسائي في جمعية الشبان المسلمين .... إنها إحدى رائدات "تحرير المرأة" ما بين الحربين ... إنها رئيسة الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي .... إنها المرحومة بشيرة بن مراد بنت العالم والمصلح الزيتوني و شيخ الاسلام الحنفي محمد الصالح بن مراد ....
محمد الصالح بن مراد !!!!! يا لزيف السراق ... سارقوا الحقيقة ودفنها في التراب .... لم نعرف عن بن مراد غير رده على الحداد، الذي لم يرسخ في ذاكرتنا عنه إلا قوله : "هذا على الحساب قبل ان أقرأ الكتاب" .... هكذا قدموه لنا ... لكنه في الحقيقة قرا الكتاب، ورد عليه في كتابه، والأهم من ذلك، رد عليه ردا عمليا من خلال تهيئة بناته، وخاصة ابنته بشيرة لقيادة الحركة النسائية في تحررها الاجتماعي والسياسي ....
يا لزيف المزيفين ....
مع فيلم "التونسية" الذي أخرجه الصديق منصف بربوش، نكتشف حقائق مذهلة .... الاب الذي رمي بالتعصب، يظهر من خلال الفيلم - الذي احتوى على وثائق وشهادات من طيف من الأقارب والاصحاب والسياسيين من الرجال والنساء، ومن البحث في أرشيفات الخارج وليس أرشيفات الدولة التونسية ... من خلال كل ذلك تبرز لنا صورة الاب المنفتح، الذي يتقن الفرنسية وله ثقافة واسعة ومعرفة عميقة بالفكر الغربي، بل وله محبة وعشق للموسيقى، ويتقن العزف على البيانو وعلم بناته العزف عليه أيضا ....
ولما لم يتمكن من كسر تقاليد المجتمع التي تستنكر خروج الفتاة للتعلم، جاء إليهن بالاساتذة للبيت وعلمهن التعليم الذي يليق بهن ... تعليما يجمع بين تعزيز وتعميق الانتماء لدينهن وأمتهن، و ما يؤهلهن لكل أسباب المساهمة الواعية في واقعهن بتعليمهن التعليم العصري الضروري ... لا بل إنه فتح لهن طريق المساهمة في الإصلاح الثقافي والاجتماعي والسياسي، لبلد يرزح تحت نير الاستعمار. وكانت بشيرة بن مراد على رأس الكوكبة النسائية التي قادت ذلك.
نفس الملاحظة التي استرعت انتباهي بعد قراءة كتاب الصديق عبدالرحمن الهذلي، أجدها أمامي وأنا أشاهد الفيلم .... كل احتكار لتحرير المرأة في بورقيبة كان تزييفا للتاريخ .... وكل ادعاء بأن من "حرروا" المرأة كانوا حداثيين بمعنى "متجاوزبن للاسلام كدين" كان تزييفا خالصا للتاريخ .... حركة بورقيبة الرمزية لنزع الحجاب ( غطاء الراس) كانت تزييفا للتاريخ .... ما وجدته من صور للمدرسات والطالبات في كتاب الشبان المسلمين وجدت مثله في الفيلم ... "كشف شعر الرأس" ولا أقول "عدم لبس الحجاب" كان عاديا لديهن بعكس ما أراد المزيفون إيهامنا به، ليغرسوا في عقولنا انهن كن يمثلن الرجعية والتأخر للتفرد بالريادة .... ومشاركة هؤلاء الرائدات للرجال في المناشط التعليمية والثقافية والاجتماعية والسياسية، والاشراف والقيام بالمهمات الخطرة في تاريخ الحركة الوطنية إبان انطلاق الثورة سنة 52 سواء لنقل الرسائل أو جمع الاموال أو المشاركة بل وقيادة المظاهرات .... وبشيرة بن مراد وزميلاتها في الاتحاد النسائي الإسلامي وغيرهن من كن يقمن بذلك .... وقد تعرضن للإيقاف والتحقيق وصمدن ولم يجبن ...
وبعد الحصول على وثيقة الاستقلال، كانت بشيرة بن مراد أول من طالبت بدمج المرأة في الحياة السياسية انتخابا وترشحا وتوليا للمسؤوليات.... وارسل لها بورقيبة بنات اقربائه شادلية بوزقرو وسعيدة ساسي وغيرهن للتشويش عليها، بدعوى أنه لم يحن الوقت بعد .... ولما لم تتوقف أرسل لها مسؤولا امنيا ليأمرها بعدم الخروج من بيتها ....
يذكر الفيلم شهادة لابن اخت بشيرة تقول أن بورقيبة خطبها للزواج بعد وفاة زوجها قائلا لها : "أنا رئيس الرجال وأنت رئيسة النساء فلنتزوج" ولكنها رفضت طلبه.
منذ إلزامها المكوث في بينها، بقيت بشيرة بن مراد بين التجاهل والانكار، لتقضي بقية حياتها في مسكن متداع لا يليق بالانسان، ولا يليق بمن كانت رائدة الحركة النسائية ... قضت بقية حياتها وهي ترى الزيف وطمس الحقيقة .... لكن إيمانها كان قويا بما قامت به، وتقبلت قدرها بنفس راضية إلى أن وافتها المنية سنة 1993.
بشيرة بن مراد نموذج لاولائك الذين جاهدوا جهادا مبينا طاهرا، وتعرضوا في حياتهم للانكار والتجاهل وسرقة جهادهم منذ فترة الاستعمار وما بعده وما قبله وفي أيامنا هذه .... ولكن تلك الطينة من الرجال والنساء اكبر نفوسا من ان يداخلهم شك في جهادهم، وأكبر نفوسا من ان يرضوا بالذلة والمهانة على يدي سراق النضالات، ليستعطفوهم أو ليبايعوهم على بيع انفسهم لهم إرضاء لشهواتهم وطغيانهم مقابل عرض الدنيا .... ومواقفهم تلك هي الروح التي تمتد في صخب الظلم والزيف والهوان فتشعل في النفوس الوليدة الجديدة شعلة الجهاد المبين للحرية والكرامة والعدل والانصاف ....
ختم المخرج الفيلم بلقطات من ثورة الحرية والكرامة .... من شارع الثورة ذات 14 جانفي، ومن انتخابات 23 اكتوبر، ومن توقيع دستور 2014 ... فارتفعت بعد الفيلم أصوات ناشزة مستنكرة ... إنهم تلامذة المزيفين والسراق الأوائل الذين سرقوا ما قامت به بشيرة ... لن نطمع بتونس خالية منهم ... كما لا نطمع بازورار الشيطان من بيننا ... وهل تحلوا الحياة بدون شيطان ؟؟!!!
لاحظوا كيف أن مقابلة في القناة الوطنية مع المخرج وبطلة الفيلم ، وقعت بكل ذلك الخلل التقني! الذي غيب صوت المخرج منصف بربوش و صوت بطلة الفيلم الممثلة حليمة داوود .... هل أن ذلك كان عفويا؟ ....
ومثله الخلل الفني الذي أخّر عرض الفيلم، وصاحب عرضه على الشاشة .... حيث جزء من الشريط خارج مساحة الشاشة في أسفلها وفي أعلاها .... هل يمكن أن يكون ذلك عفويا ؟؟؟!!!
الحقيقة، انتابني الشك ونحن ننتظر انطلاق العرض، حيث يبدو الفني المكلف بعرض الفيلم وكأنما يتعلم ضبط الشريط وتثبيته في الموقع المناسب في الشاشة، وأخيرا "اضطر" الفني "البوجادي\ الغشيم" إلى عرض الفيلم بالشكل الذي ذكرت .... وهي كلها مسؤولية إدارة مدينة الثقافة وليس للمخرج إلا تأجير القاعة وتسليمه نسخة من الشريط للعرض ....
صوت بشيرة بن مراد الذي بعثه منصف بربوش بعدما ظنوا أنه أخمد للأبد .... عاد يزعجهم ويقض مضاجعهم و يكشف زيفهم ... وزاد من الانزعاج ان المخرج ليس من طينتهم ومزاجهم و "نمطهم" .... فكانت تلك بعض ردات فعلهم منذ البداية ... ثم توالت ... وستتوالى ... لكن من دون أن يستطيعوا القيام بما قاموا به بالامس، من طمس الحقيقة ... لقد قيض الله لها من يرفع عنها حجب الحقد والاقصاء ....
اشتغل المخرج بكل حرفية وامانة، فلم يسمح لنفسه لا بتزييف التاريخ، ولا بتجييره لمصلحة أي كان .... كانت غايته أن ينتصر لبشيرة بن مراد، وان ينتصر للحقيقة، وللفن الذي عشقه منذ شبابه، وتحمل في سبيل عشقه كل المحن وكل ضروب الاقصاء والتجاهل ....
ليس ذنب المخرج إن كان المنصف باي هو من اصدر مرسوما بجعل التعليم إجباريا للجنسين، يعني قبل "محرر المرأة" .
وليس ذنب المخرج إن كانت مجلة الاحوال الشخصية صدرت في العهد الملكي، يعني بدعم الملك محمد الأمين باي، الذي عرفت بورقيبة به، وادخلته إلى قصره بشيرة بن مراد.
وليس ذنب المخرج إن كانت بشيرة بن مراد أول من طالب بالمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق السياسية، وان بورقيبة لم يكتف بالاعتراض على ذلك بدعوى عدم مناسبة الظرف، بل عمد الى حبس بشيرة في بيتها، والتنكيل بها، وسرقة نضالاتها في المجالات الاجتماعية والتعليمية والسياسية...
وغير ذلك من الحقائق التي تضمنها الفيلم، سواء من خلال الوثائق المكتوبة والمصورة، أو من خلال شهادات لفيف من الشهود المتنوعين من امثال احمد بن صالح وعبدالحق الأسود وزكريا بن مصطفى وسلوى باي، وبعض زميلاتها في الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي، وبعض أفراد العائلة كاخوها الطاهر بن مراد و الصحفي الطيب الزهار وغيرهم ....
من استفزه ما اورده الفيلم من حقائق، فليلعن الحقيقة والتاريخ إن شاء ليشفي غليله .... لكن التاريخ سيسخر منه كما سخر من غيره، لأنه لا يلتفت للحب ولا للكره للوقائع التي جرت على سطحه ... ما جرى فقد ثبت ولن يمحوه أحد .... قد يحاولون طمسه ... ولكن إلى حين ...
كل لقطة في الفيلم كان للمخرج فيها هدف ورسالة ... والجزء الأخير من الفيلم، كان اعمق بكثير في رؤية منصف بربوش مما رآه المتسرعون .... أن يصور بشيرة وكانها بيننا وهي ترى جزء من حلمها وقد تحقق .... وان تتواصل مرارتها، بسبب إصرار رئيس البرلمان محمد الناصر، على أن لا يقع تصوير أي دور لها في ردهات البرلمان، واكتفت مقابل ذلك بالصعود على سلم البرلمان الشهير، والوقوف في وسط قاعة الاجتماعات، ولتلمح بعض الوجوه الغائمة من البرلمانيين، التي بالمناسبة ويا للأسف، كانت وجوه يمينة الزغلامي وهالة الحامي النهضاويتين وبرلمانية ثالثة كانت خلفهن، رغم ان الدعوة كانت عامة للبرلمانيات للمشاركة في التصوير ... كل ذلك كان رسالة ... وربما كانت الرسالة أعمق بكثير من غيرها من الرسائل .... وهو حق كل فنان في ان يستعمل بطله لتوجيه رسائل دون أن يفتئت عليه أو يزيف حقيقة تاريخية ...
يا للقدر وحكمته .... تم تصوير تلك اللقطات قبل خمس سنوات، ويعرض الفيلم الآن، وباب البرلمان مغلق وتنتصب أمامه دبابة، ورئيس الجمهورية الذي وقع على دستور الثورة في تلك القاعة، محكوم عليه غيابيا، ومحروم من العودة لبلده. ورئيس الحكومة الذي وقع هو أيضا في نفس المناسبة، رهن الايقاف في سجن المرناقية، وملفات التحقيق في شانهما لا زالت مفتوحة ...
يا لها من أقدار ....وكأن المخرج قد نظر من خلف سجف الغيب، فرآى حلم الأجيال وحلم بشيرة وحلم الثورة يولد ويغتال في المهد ... أو هكذا خططوا ....
بشيرة بن مراد ختمت الفيلم بحرقة وألم من حرم حيا من حقه في من مواصلة نضاله، وحرم بعد مماته من ان يمارس عبر الفيلم حقه في الكلام وفي التصوير ... فكان صوتها وهي تردد لا تتكلموا ولا تصوروا ولا تقولوا الحقيقة خاتمة الفيلم.
من حق كل قارئ ومشاهد ان يقرأ ويؤول النص والفيلم بحسب رؤيته، ولكن دون أن يتجاهل أو يستنكر أو يستكثر على المؤلف والفنان حقه في بناء عمله بالطريقة التي أرادها، وحقه في اعتبار قراءته مدخلا ضروريا للتعامل مع الفيلم الذي انتجه، وبذل فيه من خبرته ورؤيته الفنية والمضمونية، ما به استقام كلا لا يتجزأ، وغير قابل لمقص الرقيب النمطي أو الشهواني أو الايديولوجي أو العائلي .... فإذا كان للقارئ حق فللمؤلف حق ... إنه حقه في الابداع وفي التأويل ....
رحم الله بشيرة بن مراد، وكل الشكر للمخرج الصديق منصف بربوش، الذي تحدى هو أيضا الانكار والتجاهل، وتحمل مسؤولية إخراج الفيلم الذي رفضت دعمه وزارة الثقافة، التي تخصص اموال دافعي الضرائب لمن "يشبه القائمين عليها" ولمن ترضى عليه الدولة التي تعتبر الوزارة جزء من مجالها الحيوي في تونس ....