search

الذات العسكرية المقدسة!

تتجنب الطبقة السياسية والاعلامية الحديث عن المؤسسة العسكرية في تونس إلا في معرض المدح والإشادة بـ"الجيش الجمهوري" والتأكيد المبالغ فيه على حياديته.

وكنت قد أكدت من قبل أن هذه الهالة التي تعطى للمؤسسة العسكرية بعيدة عن واقعه، وإنما تعكس فقط توجس الطبقة السياسية من نقده وحرصها في المقابل على مغازلته.

وعلى عكس الواقع التاريخي فإن المؤسسة العسكرية لم تكن بعيدة في يوم ما عن السياسة. وفي الفترة التي يخيل إلينا أنها كانت بعيدة عن السياسة، كانت في الحقيقة منغمسة فيها من حيث ولاؤها للزعيم بورقيبة، واستعدادها لتنفيذ أوامره ورغباته. صحيح أن الزعيم كان يبعدها قصدا عن المشاركة في إدارة الشأن السياسي في البلد، وصحيح أنه أضعف قدراتها من حيث عدم مواكبة تسليحها وتدريبها بالشكل اللائق لها. ولكنه في المقابل كان يستنجد بها في اللحظات الحاسمة. كان ذلك في جانفي 1978 وفي أحداث قفصة 1980 وأوكل لها أحيانا بعض المهام المدنية.

وكما انتشرت الأفكار والتيارات السياسية في قطاعات المجتمع المختلفة لم تشذ المؤسسة العسكرية عن ذلك. وكما في غيره من الجيوش استهوى التيارات السياسية الراديكالية المعارضة ودخلته أجيال كانت تؤمن بالثورة والانقلاب طريقا للتغيير. بعضها استطاع الترقي في مناصبه العليا خاصة ممن كان ينتمي لجهة الساحل التي حرص بورقيبة على أن يكون كبار الرتب منه، وهؤلاء تأقلموا مع الوضع واستطاعوا الوصول إلى مستويات مكنتهم من استعمال المؤسسة لأهدافهم بحسب ما يتيحه المجال ومنهم بن علي نفسه والحبيب عمار الذين كانوا على ولاءات قومية بعثية بقطع النظر على مستوى عمقها بين الاثنين وعلى مستوى ما بقي فيها من ارتباطات تنظيمية بحكم طبيعة تلك المناصب وطبيعة الالتزام الشخصي. كما لا يخفى لمن يتابعون المؤسسة العسكرية الميولات القومية واليسارية لبعض من يقودونها اليوم.

الاسلاميون ايضا لم يشذوا عن القاعدة ولكن رصيدهم قد استهلكته مجموعة الانقاذ الوطني التي سبقها بن علي بيوم فغامرت "بحياتها" انقاذا للوطن وقررت إيقاف انقلابها، بعد أن أزاح بن علي بورقيبة الذي كان يصر على قطع رؤوس 30 من قادة الاتجاه الاسلامي عبر إعادة محاكمتهم. ومع محاكمات 1992 ومؤامرة براكة الساحل، كان هدف بن علي ومن كان في خدمته داخل المؤسسة العسكرية وخارجها خاصة من القوميين واليساريين، تصفية المؤسسة العسكرية ممن يظهر عليهم علامات الصلاح ولو بمجرد أداء الصلاة. فتمت مجزرة رهيبة لخيرة ضباط المؤسسة العسكرية، تم بعد الثورة الاعتذار لهم وتكريمهم ورد بعض حقوقهم، وإن كان ما مورس عليهم وما فقدوا من أرواحهم وأبدانهم لا يسترد ولا يعوض.

وكما في مثل هذه المغامرات على مدار التاريخ، فإن من نجح في المسك بالسلطة يصبح بطلا ومنقذا ولو كان سارقا لها، ومن فشل يصبح خائنا ولو كان وضع حياته على كفه فداء لله وللوطن.

ورغم أن بن علي قد قاد انقلابه من وزارة الداخلية، مستعينا أساسا بالحرس الوطني، إلا أنه هو أصلا سليل المؤسسة العسكرية، وكذلك رفيقه في الإنقلاب الحبيب عمار. كما انه انتدب للداخلية وللحرس الرئاسي من يدير شؤونهما لا سيما الأمنية من المؤسسة العسكرية.

تخلي الجيش عن بن علي نفسه يؤكد على أن الجيش لم يكن محايدا كما يظن. وهو تخل بعد إسناد في أيام الثورة الأولى وحتى اليوم الأخير منها. ومؤشرات كثيرة تشير إلى أن "القناصة" ينتمون للمؤسسة العسكرية.

بعد الثورة تمددت المؤسسة العسكرية بشكل متزايد، وظهر حرصها على الإقتراب من "مخانق" السلطة. ومنذ البداية كانت تريد أن تضم بعض أسلاك الأمن إليها، في إشارة إلى رغبة قد تكون بدفع خارجي وضوء أخضر للاقتراب أكثر والمسك بدائرة "التحكم والسيطرة"، غير أن أحمد نجيب الشابي في ما يرويه في كتابه قد أفشل العملية.

مع الترويكا فضلت المؤسسة العسكرية التحرك نحو هدفها بطريقة تناسب "الضيف الدخيل"، فاستفادت من أكبر عمليات تطوير قدرات الجيش منذ الاستقلال تسليحا ومرتبات وترقيات، وتطويرا للتعاون مع الدول لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي بمجرد وصول الباجي قائد السبسي للسلطة، رفعت من مكانة تونس في سلم الحلفاء، وكان المستفيد الأكبر هو المؤسسة العسكرية. لكنها استفادة "ملغومة" حيث فتحت باب تطوير التعاون "الثنائي" بين المؤسستين العسكريتين، بشكل مكن الأمريكان من إرساء قاعدة لهم في تونس، وتوقيع اتفاقية تفتح المجال التونسي لهم، وتحصن جنودها من أي متابعة قضائية، وغير ذلك من بنود الاتفاقية بحسب ما تسرب منها، حيث أنها لا زالت تحت طائلة "سري جدا".

مع قيس سعيد تقدمت المؤسسة أكثر، واستطاعت - وبرغبة منه - أن تكون في الدائرة الضيقة حوله، وأن تمالئه في رغبته السيطرة على الحياة السياسية في البلاد، حتى الوصول إلى انقلابه في 25 جويلية 2021، حيث هندست معه كامل سيناريو الانقلاب، وتورطت معه في انتهاك الدستور، بل وفي حجز التلاقيح ضد كورونا، وإعداد مسرحية كان ضحيتها آلاف التونسيين، وتوجت العملية بإغلاق أبواب البرلمان بدباباتها.

وهي الآن الشريك الرئيسي لقيس سعيد في إدارة البلاد، من خلال مجلس الأمن القومي، ومن خلال كبار ضباطها الذين تقدموا إلى بعض مؤسسات الدولة كوزارتي الفلاحة والصحة وغيرها، تدير البلاد وتتوسع تدخلاتها يوما بعد آخر.

تتحمل المؤسسة العسكرية ومن خلال المحكمة العسكرية قسطا كبيرا في انتهاك الحريات، والتلاعب بالقضاء، وحماية ذاتها وأفرادها، ومحاصرة الحياة السياسية بالبلاد.

وكل ما قامت به من مراجعة لتحركاتها، لم يتجاوز تعويض دباباتها الرابضة خلف الباب الرئيسي للبرلمان بدبابات الأمن الوطني، وكذلك التشديد في إخفاء وجهها والتعرض العلني لها.

لا تستطيع المؤسسة العسكرية التملص بحال من مشاركتها في انقلاب 25 جويلية بمقدماته، كما لا تستطيع التملص من مشاركتها الفعلية والمباشرة لقيس سعيد في إدارة شؤون البلاد الآن. ولن يفيدها شيئ عجز الناس او خوفهم من التعرض لها، لأن الظلم الذي تتسع رقعته، والمستنقع الذي تغرق فيه البلاد، ومصائر الأجيال القادمة - وليس فقط الحالية - التي ترهن الآن إشباعا لنزوات السلطة والمال، لن يدوم احتمال الصبر إزاءها وإن طالت، وستحاسب هذه المؤسسة كما سيحاسب غيرها من المؤسسات على تجاوزها لسلطتها، وانتهاكها للدستور، واغتيالها لأحلام الشعب، ومداد الشهداء، ونضال الأحرار، واجتهاد الطبقة السياسية على قصورها.

هذه "الذات العسكرية المقدسة" التي تغريها ارتباطاتها الأجنبية، واحتكارها لأدوات العنف المسلح، واشتراكها مع لوبيات الريع والخراب - التي تنهب البلاد ولا يتغير فيها إلا بعض أجنحتها لصالح أجنحة جديدة أو قديمة - اشتراكها معها بكل ما يفسد ولا يصلح في هذا البلد، ومستعينة كغيرها من "السلطات الأمنية والمدنية " التي تحكم من خارج الصندوق وإرادة الشعب، متخفية وراء تسلسل إداري وتنفيذ للأوامر مزعوم، لن تكون بمنجى من المحاسبة يوما ما، ففي دولة الحق والقانون والدستور لا حصانة لمن ينفذ أوامر غير دستورية أو قانونية.

لا أكتب هذا المقال استعداء للناس على المؤسسة العسكرية ولا على غيرها، ولكنني ألفت الانتباه، بل أحمل المسؤولية للمؤسسة العسكرية وغيرها من المؤسسات في ما آلت وستؤول إليه البلاد من خراب.

أخاطب في الجميع ضمائرهم وواجبهم الوطني، وأدعوهم إلى الاستماع لناصحيهم ومحذريهم. أدعوهم إلى أن يسمعوا منا نحن شركاؤهم في الوطن، وأن لا يستمعوا فقط لمن يشير عليهم أو ينتقدهم من الخارج، فأولائك إن نصحوهم فإنما ينصحون لمصالحهم، وإن حذروهم فإنما يحذرونهم لمصالحهم، وآخر اهتماماتهم صالح المؤسسة العسكرية ورجالها وصالح وطننا الحبيب.

جنود وضباط المؤسسة العسكرية تونسيون، فيهم ما في التونسيين من خير وشر، والمؤسسة العسكرية كغيرها من المؤسسات عرضة للصواب والخطأ، ولا داعي ولا معنى لإضفاء القداسة عليها ولا على غيرها.

وعلى شرفائها أن يكبحوا جماح الذين استهوتهم شهوة وسطوة السلطة، أو الذين خنعوا لرغبات المتسلطين على رقاب البلد في فضاء الدولة أو خارجها.

وتاريخ المؤسسة العسكرية لا يخلو من صفحات بيض ناصعة، يفخرون بها ونفخر بها نحن أيضا، ونريد لها أن تتعزز.

وقد حفظنا في صبانا أنشودة:

الجيش سور للوطن ...... يحميه أيام المحن

هكذا نريد جيشنا .. سورا يحمي الثغور لا متسلطا يجوس خلال الدور.