search

الربيع العربي و قدر الاسلاميين

آلت مهمة التغيير في وطننا العربي الاسلامي للإسلاميين بحكم أنهم آخر حركات التغيير الاجتماعي وآخر المشاريع التغييرية ولادة. لا يعني ذلك أنهم يمارسون فعل التغيير وحدهم، ولكنهم موضوعيا هم قوة التغيير الرئيسية. فهم آخر من استلم قيادة ساحة التغيير السياسي المعارض، وهم آخر من اصطدم بالدولة القطرية التابعة وعنوان الاستعمار غير المباشر، وهم أخر من استوعب وقاد القوة الشبابية الاجتماعية التي من رحمها "تتخلق" ضرورة نخب المستقبل. لم يعد للقوى "الوطنية" التي قادت التغيير في معارك التحرير وبعد الاستقلال مكان، فقد استنزفت إمكانياتها في التغيير، من خلال فشلها في إدارة مرحلة ما بعد الاستقلال، كما أنها استنزفت بيولوجيا.

ونفس المصير لقيته القوى "القومية"، والقوى "اليسارية"، إذ مارست كلتاهما فعل التغيير من خلال إدارة الدولة بطريقة انقلابية للأولى وبطريقة "اندساسية" للثانية، وأتيحت لهما فرصا كبيرة لتقديم البديل على مستوى واجهات المجتمع المتعددة، وعلى مستوى الدولة، وحتى ما فوق الدولة، وكانت حصيلة ذلك سلبية.

ولا يمكن أن ينكر دارس للتاريخ المعاصر أن فشل تلك القوى هو الذي فتح للإسلاميين طريق "القيادة"، وفق سنن التدافع الإجتماعي قطعا، إذ ليس مجرد فشل الآخرين كافيا وحده.

لعبت الدولة القطرية، ومحددات النشأة الاجتماعية، والتمايزات الثقافية، وسياقات التحولات السياسية، والمواريث الحضارية، أدوارا مهمة في تحويل الاسلاميين من كيان واحد، توحده المرجعية الثقافية والفكرية والتأويل المتشابه للنص، إلى طيف يعسر تجميع كياناته في كيان واحد. واكبر مثال على ذلك حركة الاخوان المسلمين التي تعتبر أهم كيان انبثقت منه الحركات الاسلامية، حيث تجاوزت البلاد العربية إلى البلاد الاسلامية الأخرى، ومع ذلك فإن ما يفرق بين عدد كبير من تلك الحركات أكثر مما يجمعها. كما غدت مقولة: من أردوجان إلى طالبان، تعبيرا بليغا في وصف شدة تنوع الطيف الاسلامي. فبين التجربة التركية المؤسسة على تفاعل بين الفكرة الإخوانية والخصوصية التركية، وبين طالبان السلفية الحنفية، مسافات طويلة تتخللها حركات وكيانات شديدة التنوع تصل حد التناقض.

لكن هذا الاختلاف كان أيضا سمة القوى التي قادت التغيير قبلهم، حيث واجهوا نفس المحددات الاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية. ومن هنا يبدو الاسلاميون وكأنما يعيدون سيرة من قبلهم، حيث تتشابه المناهج والأساليب، وتتكرر التجارب برغم اختلاف المرجعيات الفكرية واللحظات التاريخية.

أعادتنا لحظة الاسلاميين - رغم أنها لم تنته بعد - إلى نفس الإسئلة الحائرة التي سئلت منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وعلى رأسها سؤال الأمير شكيب أرسلان المشهور. جربت الأمة لحظات الفرح العارم والاستبشار العظيم مع الثورة العربية الكبرى ومع "الاستقلالات"، وها هي الآن مع "الربيع العربي" وقد انطلقت بآمال عراض، تواجه حيرة جديدة، وخشية جديدة من "خديعة قادمة". وهكذا فإن الاستبشار والفرح والأمل ينقبض بسرعة ملفتة، ويسلم الامة من جديد لقدر جديد من الجهاد والمجاهدة، وكأنما هي "نشأة مستأنفة".

يستطيع كل باحث في تاريخ اللحظات التاريخية الثلاث، وفي إنتاجها الفكري والأدبي، أن يلحظ بيسر ما أشرنا إليه. ويستطيع أن يدرك كم هي قصيرة خاطفة لحظات النشوة والفرح. فالثورة العربية الكبرى انتهت بزرع كيان غاصب وباستعمار بغيض في شكل "حمايات" و"انتدابات" وبتمزيق الأمة إلى دويلات وكانتونات. و"الاستقلالات" تحولت إلى استعمار غير مباشر هو أشد وأنكى من الاستعمار المباشر، و حولت الكيان الغاصب الذي كان يعيش على "وعد"، إلى "دولة" استولت على معظم الأرض، وأنشأت لها مجالا حيويا استوعب دول الطوق بأشكال متعددة بل تجاوزها.

أما نذر "الربيع العربي" فها هي ماثلة أمامنا توشك ان تحول الربيع الى أيام خادعة من شتاء طويل ثقيل .

ليس للإسلاميين مفر من تحمل مسؤوليتهم تجاه مصير "الربيع العربي"، فقد حدث وهم قوة التغيير الأساسية. فإذا تحول من ثورة إلى خديعة كما الثورة العريبة والاستقلالات فعليهم يقع وزر ذلك. وإذا انقسم حالهم بين مغدورين في السجون والملاجئ، ومأجورين لدى العدو، ومستبدين في الداخل، فالوزر وزرهم جميعا. فالله ثم التاريخ لن يرحم مغدورا ظالما لنفسه، ولا مأجورا بائعا لها، ولا ظالما يكتم أنفاس الخلق .

يتقدم الإسلاميون قوى التغيير وبضاعتهم في فقه التغيير مزجاة، فلا مشاريع فكرية بحجم تغيير حضاري و ثورة ثقافية، ولا استراتيجيات وبدائل تنزل تلك الشعارات التي بشروا بها الجموع لقيادة دولة الحرية والكرامة وحقوق الانسان. لا بل إنهم استسلموا بسرعة مذهلة لبرامج التخطيط والتدبير التي أعدتها القوى الدولية المتنفذة أو وسطاؤها في الداخل. كما أن فائض القيمة الرئيسي الذي توقعت الشعوب أن يأتوا به وهو "تخليق الحياة الاجتماعية والسياسية" يمتحن امتحانا عسيرا اليوم .

لن يعفى الاسلاميون من تحمل المسؤولية وجود أعداء يتربصون بهم، ويكيدون لهم بالليل والنهار . ألم يتربصوا هم بأعدائهم وكانوا الوقود المشتعل الذي اختطفته الجماهير لتزيل به عروشا ورؤوسا ؟

لن يعفى الاسلاميون من تحمل مسؤوليتهم "تخلي" الشعوب عنهم، فقد اختارتهم "أقوياء أمناء"، فإذا تبين لها أنهم ليسو كذلك ،فمن الطبيعي أن لا تكون مستعدة للتضحية بحياتها من أجل إنقاذهم. للشعوب قوانين صارمة: تعطيك القيادة مقابل ضمان أمنها وعيشها، فإذا عجزت فذلك ذنبك تتحمل جريرته وحدك.

تقدم الاسلاميون لقيادة شعوب كانت ترزح تحت نير الاستبداد والعسف والظلم، مهانة في حقوقها الانسانية والاجتماعية، مسلوبة الحرية والكرامة، فاقدة للثقة في من كانوا يسوسون أمرها. ويريدون أن يحصلوا على ثقة بدون مقابل، وعلى وكالة بدون قدرة، وعلى تفويض بدون أمانة!

لقد أعطت الشعوب الاسلاميين القيادة مقابل صبرهم في مقاومة الظلم، ولمرجعيتهم الاسلامية التي تعطي البعد الأخلاقي المكانة القصوى، ولشعاراتهم بجعل الارض عدلا وتنمية وازدهارا. فإذا سقطوا في امتحان القيادة فما على الشعوب من سبيل. إذ ليست الشعوب استثناء من سنن الله في التدافع، وليس الاسلاميون استثناء كذلك. وقديما قال ابن القيم : إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة . وقبله قال عمر رضي الله عنه : اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد الفاجر.

ليس هناك من يتمنى لأمته استمرار هوانها، ولا لطلائعها الفشل. ولكن عدم الاستدراك على الذين يقودون الأمة الى "خديعة" جديدة لا قدر الله، خيانة للأمانة، أمانة النصح من كل فرد بما يؤديه إليه اجتهاده. فلعله ما زال في الوقت بقية، وفي الرجال عزيمة، وفي الحركات حيوية تستنقذ المسار وتصحح التوجه. و أما إن كانت "صيحة في واد و نفخة في رماد" فلعل صداها يتلقفه الأحفاد، و لعل ريحها تتحول إلى نسيم ينعش الخاملين من طول سهاد ...و على الله قصد السبيل.

تاريخ أول نشر 2017/12/8