search

الزاوية المنفرجة

لا امل من التأكيد على أن الانسان برغم رغبته في النظر الشمولي ونزعته التركيبية في النظر للأشياء والأحداث، يظل عمليا ينظر من زاوية من الزوايا، يفرضها الوضع النفسي الذي عليه، والمنهج المتوخى في الحكم على الأشياء، والنطاق المجالي الذي يعتبره الأس الذي يهيمن على الفعل الانساني ...

والانسان بطبعه يؤثر فيه واقعه ولحظته، فيكتب من خلال مؤثراتها وإيحاءاتها ... ولكي يخرج من أسرها يحتاج إلى جهد نفسي وذهني مضني ...

وقد لاحظت أن الانسان يحتاج دائما إلى إيديولوجيا، يرتكز عليها في بناء أفكاره وممارسته. ومعنى إيديولوجيا هنا عقيدة صارمة تحتوي على مسلمات حتى ولو كانت مجرد مصادرات. ولا يشترط فيها أن تكون انسياقا وراء إيديولوجيات معروفة وشائعة ... وقد يكون من الإيديولوجيا الايمان الصارم بموت الإيديولوجيا ذاتها، حيث يتحول القول بموت الإيديولوجيا إلى إيديولوجيا، تماما كما تحول القول بـموت " الدين " إلى دين عند الماركسية وغيرها.

الإيديولوجيا مطلقات، والإنسان لا يحيا بدون مطلقات. لأن الشك لا يحرك الفعل وإنما الايمان هو الذي يبعثه ويدفعه... ولا إيمان بدون إيديولوجيا.

ولفرط عدم استعداده للعيش في ظلال الشك، فإن الانسان لا يصبر على أن يكون بدون إيمان ما. ولذلك فإنه يسرع لبناء "استخلاصات" تمثل "يقينيات" عنده، حتى في الأوقات واللحظات التي لم تستقر فيها الأحداث على صورة ثابتة ...

وكثيرا ما تأملت في سلوكنا تجاه الأحداث، وسرعة بحثنا عن إجابات متماسكة، وكأننا قضينا زمنا طويلا يسمح بذلك، فإذا هي مجرد سنوات قلائل لا تعد شيئا في عمر الشعوب والمجتمعات، ولا تسمح قوانين الفعل الاجتماعي بحصول تحول فيها.

ماذا تمثل 10 سنوات في عمر الشعوب ؟ وماذا تمثل 3 سنوات بعدها؟

من كان ينتظر أن يحصل حدث مفصلي كحدث 7 أكتوبر ؟

من كان ينتظر ثورة كالتي شهدناها سنة 2011؟

الزاوية المنفرجة هي النظر للواقع من زاوية تاريخ المجتمعات لا تاريخ السياسة، ومن زاوية التاريخ الطويل لا التاريخ الحدثي ...

تلك الزاوية هي التي تسمح لنا بالتقاط عناصر التقدم والتراكم الايجابي في حركة المجتمعات ... ومن عناصر التقدم تلك - وهي مفارقة - الأخطاء والارتكاسات، لأنها من أكثر الطرق قدرة على فرض التجاوز والانتقال للأفضل ... شيئ ما شبيه بما يحصل للإنسان حيث الوقوع في الخطأ والخسارات والتعرض للمصائب أكثر الطرق جدوى في استخلاص الدروس.

ولأنني أعطي البعد النفسي حجر الزاوية في فعل الانسان، فأنا أقرب إلى منطق المعري في حجاجه المشهور مع الطبيب والمنجم،

زعم المنجم والطبيب كلاهما ### لا تبعث الارواح قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر ### أو صح قولي فالخسار عليكما

إذا استسلمنا للنظرة العدمية والتشاؤمية كانت الخسارة محققة. أما إذا تفاءلنا فقد لا نظفر بما نأمل، ولكننا لن نخسر أنفسنا.

بهذه النظرة يمكن لنا أن نرى بوضوح عناصر تقدمنا ومراكمتنا للفعل الإيجابي، وأن نرى بعقلانية أخطاءنا فنقدم على تجاوزها كليا أو جزئيا .. وقد لا نستطيع ... ولا يعني ذلك أننا فشلنا ... ما دمنا نحاول ولا ننفك نحاول ....

تاريخ أول نشر 2024/6/3