أكتب وأمامي دروس التاريخ وخبرات الشعوب وتجاربها وثقافاتها العميقة، بما فيها تلك التي ترتبط بالسياسة كممارسة. أكتب - في هذا النص- بما يمكن أن يكون، وبما يجب أن يكون في إطار ذلك الممكن. لا أكتب بما يجب أن يكون نظريا، ولا بما يمكن أن يكون لو كان ما يمكن نظريا ممكنا في الواقع.
من هنا أنظر للواجب، ومن هنا أفهم التكليف، ومن هنا أدعو للممكن، ومن هنا أستنهض الهمم، وأدعو إلى ترتيب الأولويات، واقتناص الفرص، واستثمار الرصيد.
ما أكتبه يمكن أن أتوجه به لكل تونسي،حر أبي، ناضل أو حتى حلم بتونس حرة تسودها قيم العدل والكرامة. لذلك أنشرها في صفحتي ليقرأها الكافة. فأنا أؤمن بأننا في الأخير تونسيون مسلمون، ما يجمعنا أكثر مما نتوهم أنه يفرقنا. أقول ذلك باقتناع علمي وليس مجرد "تأليفا للقلوب".
أعود لصلب الموضوع ... هذا الرجل الذي إن وضعت أمام عقلك وقلبك أوله وآخره، ما كتب وما قال، ما فعل وما لم يفعل، وجدت نفسك أمام رجل لم يكسب ما كسب بالفهلوة أو بالاغتصاب، ولم يعط ما أعطى، ولم يحرم نفسه ما حرمت، لمجرد شهوة في الاستمتاع بتعذيب نفسه.
تعلقت همته بأحلام كبرى، ولما يغلق سن الشباب، فأتاها بكل مجامعه، وأعطاها من قلبه وعقله وجسده وروحه ما تستحق كأحلام كبرى ... بل كان مستعدا أن يعطيها رقبته ...
إنه ليسهل عليك أن تتكلم عن الناس في وقت رخائهم وأمانهم، ولكنك لا تستطيع أن ترسل لغو القول حين يتعلق بهم وهم مهددون بالمشنقة أو بالمقصلة.
أكتب وأنا العارف بما عاناه هذا الرجل وهو يقود حركة عمرها الآن تجاوز الخمسين عاما، معاناة من يبحث عن التوفيق بين رؤاه وأفكاره وأحلامه، وبين عقلها الجمعي ووعيها الجمعي وأحلامها الجمعية ... يصارع فيها ومعها موروثاتنا المتشابكة والمعقدة، وأحلامنا المتنوعة والمتناقضة ... كما يصارع كل ذلك في نفسه. وقد قبل باشتراطاتها عليه، وحمل نفسه واجب الاستماع والحوار والنزول أحيانا كثيرة عن رأيه أمام جنوحها وتسرعها وأحيانا همودها وخمودها ...
لن تجد في الحركة على طول تاريخها أكثر استعدادا وصبرا على الاستماع والحوار منه ... ولن تجد أكثر استعدادا للكتابة والخطابة منه .... ومع ذلك فلا يكتب بحشو الكلام، ولا ينطق بلغوه .... ربما وجدته مندفعا أو متحيزا أو مبررا، ولكنه يبهرك بقوة حجته وتنوع استدلالاته ... تغلب حجته عاطفته ... لم يشتهر ببديع القول ومزوقات الكلام ومحسناته من شعر و أدب، بقدر ما أوتي القدرة على المحاججة واقتناص المداخل العقلية المؤثرة والتقاط الأفكار وتوظيفها في دعم رؤيته أو فكرته ... يستعمل لغة الفقهاء ولغة الفلاسفة ولغة المؤرخين ولغة رجال القانون ولغة علماء النفس ولغة كل علم يرى في استعماله قدرة على تبليغ حجته والتمكين لفكرته.
امتلك بجرأته ورغبته الجامحة في تحقيق أحلامه والدفاع عنها قدرة عجيبة على مخاطبة جميع أطياف المجتمع .... لا يعجز أن يتكلم مع العامة في الربف أو المدينة، ولا أمام الخاصة في مجالسهم أو منتدياتهم .... مع أشياعه وخصومه ... مع محبيه ومناوئيه ....
ممتلئ بفكرته بدون غرور، وفي نفس الوقت استعداد للتنازل عن وجهة نظره والرضوخ امام معارضيها إذا لم يتمكن من إقناعهم ... لكنه لا يستسلم .... يقبل بـ"الهزيمة بالنقاط" ولكن لا بـ"الضربة القاضية" كما قال بن كيران عن نفسه ... يرضخ ويقبل بالقرار، ولكنه يتحفز لمراجعته في الوقت المناسب ... حين يظهر لمعارضيه أحيانا قبله خطؤه أو عدم فاعليته أو لا واقعيته .... كثير من المواقف التي اتخذت ضده أو بنيت حول شخصيته عند التحقيق الدقيق لم تكن إلا تعسفا عليه، وعدم تقدير لمكانته، ورغبة في جعله مجرد منفذ لرغبات الآخرين حتى ولو كانت ضد قناعاته وطبيعته .... يعجزون عن إيجاد بديل له ويريدون أن يتحول هو إلى ذلك البديل المنزوع الإرادة .... وما هو بذلك ... ولا يمكن أن يكون أحد كذلك ...
أحيانا ينتاب المرء إحساس بأن ما أثر عن أبي الحسن الشاذلي في وصف أهل تونس مطابق لحقيقتهم ...
انتفض العالم من شرقه إلى غربه على الشيخ راشد الغنوشي، ورفاقه وأبناؤه خامدون هامدون ... ألهذا الحد عميت الأبصار عن فهم ما يجري ؟ ألهذا الحد استسلم القوم للدعايات المغرضة ؟
ألهذا الحد يترك يصارع الظلم والاستبداد وحده؟
ألهذا الحد ذهل القوم عن أن المقصود في كل ما يجري ليس الغنوشي في شخصه، وإنما ما يحمله من فكر، وما يدافع عنه من قيم، وما يرمز إليه من قوة، وما يملكه من تأثير؟
تنطلي الحيلة على الأصحاب وأبناء المشروع، وينجح الخصوم في جعلهم لا ينظرون إلا من ثقب "ما يؤخذ عليه"، ويتركون الأبواب المشرعة المنفتحة على جهاده وعطائه وعناصر قوته، التي هي قوة للمشروع، وميزان من موازين القوى في الصراع الدائر... صارعوا به الاستبداد طيلة خمسين عاما، واليوم يتركونه فريسة الاستبداد ... أنا اعرف صلابته وإصراره وعناده وشجاعته ... فهو ممن "لا يستوحش الطريق لقلة سالكيه" ... وله القدرة والذكاء في تحويل المعارك لصالحه وصالح مشروعه ... وأحسبه في هذه اللحظة التي يزج به في السجن في عمره ذلك إنما أختار هو اللحظة، وحول المعركة لصالحه وصالح مشروعه ... فكيف يخذله رفاقه ؟ أو بالضبط كيف يخذلون مشروعهم ؟
من ينتصر للشيخ راشد الغنوشي .... من يؤازره في صراعه مع الاستبداد والانقلاب، لا يفعل ذلك ليستفيد منها الشيخ وإنما يفعلها لنفسه ولمشروعه ... مهما كانت قدرات الغنوشي، ومهما كان استعداده، ومهما كانت صحته، فلم يعد له ما يمكن أن يغري بامتلاك ما لم يمتلكه، ولا بركوب ما لم يركبه، ولا بالوصول إلى ما لم يصل إليه، سوى أنه نذر نفسه أن يعمل إلى آخر نفس من حياته، وأن يتعهد الفسيلة حتى ولو كان بين يدي الساعة ... إنه سليل قوم يقبلون على الموت بثبات، ولا يتحملون خرم المروءات، فضلا عن أن يتولوا عند القيام بالواحبات ....
يا ويح قوم ... تركوا رجالهم في منتصف الطريق، وجلسوا على ربوة ينتظرون مصيرهم ... فلن يلبثوا حتى يحاصرهم الموج من كل مكان ...
سيقول كثيرون هذا كلام عاطفي بعيد عن الحكمة والتعقل ... لهم ذلك ... لكنه عندي كلام مشفق يستحث إخوته وقومه كي لا تختلط عليهم السبل ... فسنن التاريخ تقول أن الزمان لا يجود بالرجال بمجرد الأماني ... وكي لا يفقدوا أعلى خصلة من خصال أهل الجاهلية ثبتها الاسلام ألا وهي المروءة .... وكي لا يلقوا بالعصا التي يكاد لا يملكون غيرها في طريق تملؤه الذئاب والافاعي ...
ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد ....
تاريخ أول نشر 29\4\2023