غالبا ما تنحني الرقاب أمام جلال الموت... ومن ذلك أنها تفرض على الحي التوقف عن البحث عن النقاط السود في سيرة المتوفي.... وترتسم تلقائيا في الغالب الأعم صفحاته البيض وصالح أعماله ومآثر سيرته وحسنات أقواله وأفعاله. والمدهش أننا نجدها غالبا كثيرة كثرة ملفتة تجعلنا نستغرب أحيانا خفاء البعض منها والغشاوة التي تحجبنا عن رؤيتها وهو حي بيننا.
أمام جلال الموت نكتشف أن الخير في الناس أصيل و نتفاجأ أحيانا بأعمال جليلة طمرتها النظرة المتشككة والباحثة عن المصالح الخاصة المادية أو الاعتبارية. النظرة التي يدفعها التنافس على الدنيا و يغذيها الطموح الجارف و قد يتجاوز ذلك فيتحول الى هم مدفوع بالغيرة والحسد.
احيانا نفاجأ بمن كانت سيرته محل انتقاد جارح بل عداوة صريحة ... اكتشفنا عند موته وبعد أن لم يعد له في الدنيا نصيب الى أنه قام بأعمال كثيرة لا تدل الا على قوة حضور عنصر الخير فيه مما يجعلنا احيانا نقر بأننا قد نكون أخطأنا أو بالغنا أو حتى افترينا عليه بسبب من تلك الحجب المكثفة التي تغطي مناقبه ولا تبرز الا مثالبه.
ومصداق ذلك أيضا أننا مع كل ميت جديد نردد : لم يبق في الدنيا الصالحون .... ولا ننتبه اننا رددنا هذه العبارة عند وفاة من قبله.... لأننا فقط ننظر للأحياء بغير المنظار الذي ننظر به الى الاموات ... مع أننا مطالبون بأن ننظر للانسان بمنظار واحد وهو منظار الانصاف ومنظار الايمان بأن الخير في الانسان فطرة والشر حادث و لن يغلب ما يحدثه الانسان على المفطور عليه.
أكتب هذه الكلمات بمناسبة وفاة المغفور لها الاخت الفاضلة محرزية العبيدي لا باعتبارها مثالا على ما ذكرت فسيرتها الفاضلة لا تقبل الشك ومآثرها لا تقبل الغمط .... نحسبها كذلك ولا نزكي على الله أحد ... مع أنها إنسان .... كان لها محبون ومبغضون ... ولم تكن معصومة عن الخطأ والزلل ... لكنني أكتب بالمناسبة لأنادي في الناس .... يا ناس لنعتبر بما يكشفه لنا جلال الموت من جانب الخير المركوز في الانسان و الذي نكتشف أنه كثير كثير واننا لو استعملنا ذلك المنظار في سائر حياتنا ومع بعضنا - وهو ما نحن مأمورون به شرعا وينادي به كل حس إنساني - لو استعملنا ذلك المنظار لكان التعامل بيننا أفضل و تحقيقنا لمقصود الاستخلاف في الارض أفضل و لحققنا كل ما نادت به آيات الذكر وأحاديث صاحب الرسالة ووصايا الرسل و نداءات الحكماء من كل دين ومذهب من التعارف و التعاون والتآخي. غير أن ذلك لا يكون إلا بكدح ونصب ومغالبة ومصارعة وتدافع مع نوازع النفس وحزب الشيطان الذي خلق ابتلاء وليس قدرا ....
رحم الله محرزية وجازاها خيرا أن كانت لنا موعظة وعبرة بأن الدنيا فانية فلا نغتر بطول مقام وأن الخير في الانسان كثير فلا نقطع أملا في أحد ولا نحمل ضغينة على أحد .... و"كونوا عباد الله إخوانا" ...