أذكر ابتداء بموقفي المبدئي من الانتخابات الذي لم يطرأ عليه تغيير برغم الأحداث المتتالية في مجرى السباق. لكنني أكتب في إطار المساهمة في ترشيد الساحة والدفع بالجميع إلى إعمال الرأي وتجنب الاندفاع وردود الأفعال والوقوع في شرك الحيل التي تنصب هنا وهناك من طرف قوى داخلية وخارجية مردت على التلاعب على الحبال واستعمال كل وسائل المكر والخديعة.
أقول أولا أنه لا يجب علينا أن نسقط في النظرية الصفرية فهي لا تصلح لمثل هذه القضايا. فالقول أن المهم أن نغير قيس وكل ما عداه أفضل منه، قول ينطوي على رد فعل نفسي أكثر منه على معرفة وخبرة وعقل حصيف يتعامل من موقع الحسابات الدقيقة والاستشراف الواعي. ليس صحيحا أن كل من سوى قيس خير. فقد يكون من هو أسوء بكثير، تتوفر فيه شروط وتقف وراءه جهات يستطيع من خلالها وتستطيع من خلاله إحكام قبضتها على البلاد عقودا وليس سنوات معدودات كما حصل مع قيس. وقيس جربناه وعرفناه، وقد استهلك من رصيده بما جعله الآن يتمعش من بقايا ما علق في إنائه، وأمره إلى زوال، وليس له ما يمكن أن يستعيد به وهجه، فقد ذبلت العروق ولم يعد لجذعه وأغصانه وأوراقه ما به تتجدد. أما من سيأتي فسيأتي غضا طريا، يملك من خفاء السيرة واحتضان العشيرة وعنفوان البنية ونضارة الوجه، ما يجعله أكثر قدرة على تحمل الصدمات والدخول في المغامرات وبناء العلاقات.
أنا متضامن بدون أي تحفظ مع السيد العياشي الزمال في المظلمة المسلطة عليه، ومن حقه أن ندافع عنه كي يخرج من السجن ويعود إلى بيته، ويمارس حقه في الترشح باعتباره قد استوفى ما هو مطلوب من شروط. لكن من حقي أن أتساءل أمام كل غموض يبدو لي في أمره، ليس طعنا في شخصه باعتباره العياشي الزمال، بل باعتباره مرشحا لرئاسة الجمهورية.
لقد تم قبول التزكيات التي تقدم بها السيد العياشي الزمال إلى هيئة الانتخبات، وقبلت جميعها بدون أي ملاحظة أو خطأ ! وهو أمر من الطبيعي أن يحدث مع اعتماد وسيلة تقليدية في إثبات التزكيات ... فأن يتم تقديم التزكيات وتقبل بدون أي تعقيب من الهيئة أمر يدعو للتساؤل. ناهيك أنه وعلى عكس بقية المترشحين، لم نكد نسمع حسيسا لعملية الجمع، وكأنها تمت في الهزيع الأخير من الليل والناس غارقون في نوم شتوي ثقيل!
ظني - وبعض الظن إثم وليس كله - أن الهيئة ومن ورائها المنقلب قد قرروا ابتداء تزيين المشهد الانتخابي بشخصيتين وقرروا أن يكون الزمال أحدهما، ولكنه تبين لهما بناء على ما قد يكون اكتشفوه من معلومات، أن السيد العياشي الزمال ليس كما قدروا وأنه تقف وراءه جهة أو جهات ما، عندئذ غيروا رأيهم وقرروا إقصاءه، أو التنكل به لحمله على التنازل، أو محاكمته بشكل يمكن إبطال أصواته بحسب القانون الذي صاغه المنقلب على هواه. السلطة ظالمة، وقيس منقلب ولا يفعل أي شيئ لمصلحتنا وإنما لضمان استمرار جلوسه على كرسي الحكم، ولكن ذلك لا يعني أن كل من يقاومه هو بالضرورة نقيضه. هو يقاوم من ينافسه أكان نقيضه أم شبيهه، صالحا كان أم طالحا.
كتبت نصا حول الشروط التي يجب أن تتوفر في من يمكن ترشيحه للرئاسة، وقلت يجب أن نحذر أن نرشح شخصا يتقدم لنا كفرد، فمن حقنا أن نعرف المحيطين به من فريق خبراء أو ما يمكن أن نطلق عليه حكومة ظل، وكذلك البطانة التي تحتضنه ويحيط بها نفسه. وكما قال الشاعر : "عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه".
وإذا كان السيد العياشي الزمال لم يكشف لنا بعد عن "حكومته" و"بطانته"، إلا أن الأسماء التي برزت في محيطه في الفريق القانوني وإدارة الحملة تحتوي على عناصر وطد معروفون، وبعضهم يحاول أن يخفي أثر مسيره.
لقد وصل الأمر بأحد أهم رجال محيطه وهو السيد عبد الستار المسعودي أن يكتب معلقا على قرار المحكمة الإدارية إرجاع عبد اللطيف المكي لقائمة المترشحين ما يلي: "اليوم كملتلنا المحكمة الادارية .. وحيد آخر .. من سلعة السلفيين .. باش يذكرنا بماضيه وماضي حزبه الذي فتح الباب للإرهابيين وتجار الدين .. وشاربين بول البعير .. نحن له".
أما السيد مصطفى التواتي الأستاذ الجامعي اليساري المعروف ( وأظنه سليل الحزب الشيوعي التونسي ) فهو لا يربأ أن يدبج مقالاته التي من المفروض أن تكون ذات مسحة أكاديمية، بكل الشائعات والدعاوى الكاذبة حول خصومه الاسلاميين، ومنها مقال مشهور صدر سنة 2014 في جريدة التونسيون، لا بل إنه في الندوة الصحفية التي أشرف عليها بعد اعتقال السيد العياشي الزمال لم يستنكف عن اعتبار العشرية السابقة عشرية سوداء رغم محاولته المراوغة لتضليل انتباه المتابعين.
ليس لدي اعتراض عن أي جهة سياسية تختار أن ترشح من بينها مرشحا أو تختار أن تناصر آخر ... لكن الوضوح مطلوب حتى يكون الناس على بينة ... ومن يلجأ لأساليب المراوغة ليس عليه أن يستغرب إن كشفت حيلته. ودون أن أخفي معارضتي الواضحة لتيار استئصالي لعب دورا مركزيا في مناصرة بن علي في حربه على الحركة الاسلامية وواصل مهمته المشبوهة بعد ذلك.
كنت دعوت في أحد مقالاتي إلى أن العبرة مما حدث لنا مع قيس، تجعلنا لا نقبل أن يمر أي مرشح دون عرضه على آلة التصوير بالرنين المغناطيسي IRM ، وسيرة السيد العياشي الزمال تكشف لنا عن أنه كان من " طلبة التجمع" تلك المجموعة التي انتعشت خاصة في حكومة الشاهد. والعياشي الزمال نفسه كان "اكتشاف" الشاهد، ودخل البرلمان نائبا عن حزبه "تحيا تونس".
تصفحت حساب حزب السيد العياشي الزمال على الفيسبوك، ووجدته مليئا فقط بنشاط ومقابلات السيد العياشي الزمال!
ولم يظهر معه إلا في مناسبات محدودة تعد على أصابع اليد الواحدة، الدكتور مصطفى التواتي، الذي تعجبت كيف أن إسمه ورد في غالب المنشورات التي نشرت له "مصطفى التيواتي" وليس التواتي! مما تطلب مني البحث والمقارنة حتى أدركت أن لقبه الحقيقي هو التواتي وليس التيواتي ولا أعرف إن كان الخطأ مقصودا أم غير مقصود!
وتذكرت كيف كانت جلساتي مع أصدقائي الألبان التي لا تخلو من الحديث عن أنور خوجة، وكلها قدح وذم وتحميله مسؤولية ما حل بألبانيا من تخلف، جعلها حتى بداية التسعينات بلد لا يقارن إلا بأفقر البلدان الإفريقية، حيث كانوا يختمون الحديث: ولكنه كان جميلا!
علمتنا التجارب التي عشناها والتي قرأنا عنها، أن ظاهر الصورة لا يعكس غالبا باطنها، وخاصة في الملفات السياسية الكبيرة، لأن عملية الإخراج تقتضي حسن العرض كي يحقق نجاحه من خلال القدرة على إخفاء ما يجب إخفاؤه وإظهار ما يبدو وكأنه عين الحقيقة ولكنه ليس كذلك.
يقال أن السيد العياشي الزمال رجل أعمال ناجح ... نهنئه على ذلك ونتمنى له مزيد التوفيق ... ولكن تلك الصفة يمكن أخذها بعين الاعتبار من جملة الصفات الأخرى الضرورية لا أكثر ولا أقل.
في الختام نطالب - وهو فعل أكرهه - بسراح السيد العياشي الزمال الذي أوقف ظلما وعدوانا، كي يعود لحياته الطبيعية وعائلته وتجارته، ويواصل حملته الانتخابية ... وللشعب وحده في انتخابات تعددية وحرة ونزيهة وشفافة الحكم له أو عليه.
تاريخ أول نشر 2024/9/8