في مثل هذا اليوم 13 نوفمبر من سنة 2019 تم انتخاب الشيخ راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان التونسي. وقد كتبت يومها: "اليوم ستكون هناك صورة رمزية مليئة بالدلالات ... عبد الفتاح مورو يسلم رئاسة الجلسة الأولى للبرلمان لراشد الغنوشي...
في 6 جوان (يونيو) 1981 قال الغنوشي في أول ندوة صحفية للحركة ... "سندخل السياسة بلحانا وعمائمنا هذه" ... و كان الأمر حلما ... ها هما اليوم يعتليان سدة المؤسسة الأولى في البلد ... المؤسسة التشريعية ... ويقومان بعملية تسليم وتسلم أمام ملايين التونسيين والعالم .... إنها الإرادة ... وإنها سنن التاريخ ... التي لا تحابي أحدا ... و لو دامت لغيرك ما آلت إليك ..."
وكنت قد كتبت يوم 7 أكتوبر بعد فوزه في الانتخابات: "أخيرا تأتي السلطة "راغمة" للشيخ راشد الغنوشي، ولتصبح رئاسته لأعلى مؤسسة في الدولة دستوريا أمرا واقعا، بعد أن كان عسيرا حتى في الأحلام. يتقلدها قادما إليها على صهوة جواد الحرية والكرامة في مسيرة خمسين سنة من النضال. إنه حدث مليء بالدلالات و يؤذن برمزيته ميلاد عهد جديد لتونس، وفصل جديد من فصول ثورة الحرية والكرامة."
سيقول كثيرون : ها قد سقطت أحلامك و توقعاتك في الماء. وسيقول الذين كانوا يعارضون اقتراب الشيخ راشد الغنوشي من الدولة من خارج الحركة : "ألم نقل لكم لا تلعبوا بالنار؟" هذا للمعارضين من الخارج، أما المعارضون داخل الحركة فسيقولون : "ألم نقل لكم أن ترشحه لرئاسة البرلمان سيكون كارثة؟".
لكنني ما زلت عند رأيي في أن ترشحه للبرلمان وفوزه في انتخابات حرة نزيهة وشفافة بأعلى الأصوات كان ضروريا وأسقط أراجيف الكثيرين وفند دعاوى المنهزمين. فكيف لحركة تتصدر المشهد وتفوز في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة أن يكون زعيمها والصانع الرئيسي لشعاراتها ومقولاتها وأفكارها وبرامجها وعلاقاتها وجهادها وبلائها "مكروها ولا يحبه التونسيون!".
ومع ما يعلمه المتابعون من نقدي للنهضة ولرئيسها، إلا أنني كنت لا أتقبل هذه الرؤية التبخيسية والمدسوسة حتى داخل النهضة، التي استولت على وعي جزء من النخبة، واجتهدت في أن تجعل منها مسلمة خضع لها الشيخ راشد نفسه، تجنبا لإرباك الوضع الداخلي والخارجي في بداية الثورة، ومنها تصريحه عند عودته بأنه لن يتقدم للمناصب السياسية.
الذين كانوا يوجهون سهامهم بالليل والنهار لراشد الغنوشي ويعملون بكل السبل على تحييده عن خوض غمار الممارسة السياسية ولا سيما الاقتراب من السلطة كانوا واعين بما يفعلون ... كانوا يدركون الثقل السياسي والفكري والرمزي الذي يمثله داخل الحركة وخارجها، ويريدون أن يجردوا الحركة من أهم أسلحتها. هم يدركون ماذا يعني أن تحيد زعيم حركة ومؤسسها وكاتبها الأول ووجهها الذي تفتح له أبواب الداخل والخارج، في كل أطياف المجتمع التونسي وفي العالمين العربي والاسلامي والعلم الغربي أيضا.
النخبة العلمانية المتطرفة كانت بذكائها وخبثها والنصائح التي تهدى لها تعرف كل ذلك ولذلك اشتغلت على كل ما يساهم في تشويه صورته ويرذله أمام التونسيين، ويدخل الشك داخل حركته وخاصة في أوساط النخبة التي استسهلت إمكانية الحضور بل النجاح من خلال دفعه للوراء. وكان هذا من أهم نجاحات التأثير الخارجي على الداخل النهضاوي.
ومن الطبيعي أن تكون كل خطوة يخطوها راشد الغنوشي للاقتراب من السلطة تزيد من سعار الخصوم وأن تتطور معها أساليب مواجهته وإفشال مخطط الحركة في ذلك.
الفكرة التي تم تمريرها للداخل النهضاوي ووجدت هوى عند البعض، أنه بإمكاننا تحقيق ما لا يمكن تحقيقه بدخوله فضاء السلطة، وأن مغامرة دخوله ستكون تكلفتها باهضة.
لكن السؤال الآخر الذي كان مطلوبا طرحه والإجابة عليه: هل أن استبعاد زعيم الحركة وجعله يحكم بالضرورة من وراء حجاب يمكن أن يساعد على تحقيق هدف المشاركة في الحكم والتطبيع مع الدولة أو إصلاحها؟
لقد بينت التجربة أن ذلك غير ممكن وأنه سيؤدي بالضرورة إما إلى تهميش الزعيم أو فشل المشاركة وهو ما حصل في جل التجارب إن لم يكن كلها وليس في تونس فقط.
أعلم أنه مما زاد في ترسيخ هذه القناعة لدى البعض داخل الحركة هي تجارب الازدواجية التي عاشتها الحركة في بعض المراحل من خلال وجود الزعيم في منصبه العلني بكل رمزيته وقيمته العملية ودون أن يكون الرئيس القانوني للحركة. وقد كانت تجربة فاشلة لم ينظر فيها إلا لوجهها القانوني الشكلي تقريبا.
لقد ناديت بعد الانتخابات إلى أن يتقدم الشيخ راشد لرئاسة الحكومة وذلك ما تقتضيه التقاليد الديمقراطية وسياق أحكام الدستور، وكنت أجادل أن الشيخ راشد قادر على ملئ منصب رئيس الحكومة كمنصب سياسي بكل ما يملكه من ثقل سياسي داخلي وخارجي محاطا بفريق حكومي من ذوي الكفاءة والخبرة وبفريق مستشارين على نفس الشاكلة. ولا زلت أرى أن كل من ترشحوا لذلك المنصب لا يوازون قيمته وقدرته.
لكنني أعرف أيضا أنه سيواجه بمحاولات إفشاله وترذيله ووضع العراقيل أمامه كما حصل في رئاسته للبرلمان. وكل ذلك ليس لأنه غير قادر على ذلك بل بالعكس لأنه هو القادر على أن يخوض مع خصومه المعارك وأن يواجهها بكل الأسلحة الممكنة إذا وقفت خلفه حركة موحدة ونخبة متضامنة.
لا يقدم على ركوب المخاطر المهلكة إلا الرجال الكبار في التاريخ. ولن تمحو كل عمليات السطو التي تمارس في التاريخ من الأعداء والأصدقاء جهاد الصادقين المخلصين. ولن يبنى مستقبل إلا على ما وصل إليه جهادهم ولن تنبت أرض ويخصب زرعها إلا من دمائهم وعرقهم وعنائهم وبلائهم وما قطعوه من خطوات في جهاد التحرير والتحرر.
حكى لي أحد قيادات النهضة أن محسن مرزوق قد أسر له يوما في لحظة صفاء، أنه وضعت أمامه خطة لتحويل المجلس الوطني التأسيسي إلى سرك وبكل ما تتكلفه من اعتمادات لكنه رفضها. تلك الخطة التي رفضها محسن مرزوق هي التي قبلت بها ونفذتها عبير. وعبير كانت وجهها الظاهر أما ما وراءها فهو كل ما تقتضيه من إعلام وأجهزة مساندة ومتواطئة.
أعرف أنه عند الدخول في التفاصيل هناك الكثير مما يقال، وأعرف أنه كان يمكن التقدم خطوات أفضل حتى إذا لم يتقدم راشد الغنوشي للبرلمان أو للحكومة أو لرئاسة البرلمان، ولكن أقول أنه من الوهم تصور أن المعارك الكبرى قد انتهت مع سقوط النظام في 2011. إن هذا الاعتقاد في أي درجة من درجاته كان هو السبب في ترهل الجبهة الداخلية مضافا إليها أخطاء كثيرة في التقدير وفي التدبير وفي إدارة الموارد البشرية.
وعوض أن تتحول النهضة بعد المؤتمر العاشر إلى مرحلة يتضاعف فيها العمل والجهد والتكاتف، متناسبا مع ما اشتداد الصراع الذي سببه صمود الحركة ونجاحها في إحباط مؤامرات الأعداء عليها وعلى الثورة، وانسجاما مع التحولات المضمونية الكبيرة التي كشفت عنها لوائح المؤتمر، عوض كل ذلك جرى اختزال الحال في حادثة جزئية - على أهميتها - سلبت العقول والقلوب وضيعت بها نخبة الحركة بوصلتها.
نعم سقطت تجربة الانتقال الديمقراطي، ولكنها سقطت بعد عشر سنوات وسقطت بانقلاب. فهل سقط راشد الغنوشي؟ وهل سقطت النهضة ؟ بالتأكيد لم يسقط راشد الغنوشي ولم تسقط النهضة بحساب فعل التاريخ.
نعم تعثرت التجربة، ولكن تكفي صورة الغنوشي أمام باب البرلمان المغلق بدبابة نصرا لن يمحوه انقلاب مهما قدر له من الزمن أن يستمر.
ويكفي سعيه لحقن دماء التونسيين، ويكفي سيعيه للتوافق، ويكفي خفضه للجناح و تصدقه بعرضه، ويكفي صبره على الأذى، ويكفي كلماته الخالدة ونداءاته للتونسين إلى كلمة سواء. يكفي وهو في مدرسة يوسف في سنه الثمانيني قائما بالقسط، ثابتا على الحق، متبتلا في محراب الدعاء والعبادة والتدبر،
ومثله و هو القارئ النهم ... يعرف مصير المصلحين الكبار والعلماء الأبرار والمجاهدين الأخيار، قد يلاقون التنكر والخذلان ولكنهم منصورون بإذن الله ... وكان حقا علينا نصر المؤمنين.
تاريخ أول نشر 2024/11/13