كل عاشوراء والمسلمون يحيون الفتنة
منذ 14 قرنا تصارع المسلمون، ككل المجتمعات البشرية، حول اقتسام السلطة والثروة (بعد أن امتدت أطراف دولتهم وتدفقت عليهم الثروات). سموا صراعهم ذلك بالفتنة استلهاما من القرآن. لم يحسنوا إدارة خلافهم فانقسموا. ووصل الأمر إلى الحرب فانبعثت من جديد النعرات العصبية القبلية السابقة للإسلام.
بعد 14 قرنا، لا يزال المسلمون يسترجعون تلك اللحظة كل عاشوراء، وينقسمون، كل ينتصر لطرف على حساب الآخر. ولا ينتبهون أنهم بعد كل تلك الفترة ينخرطون في ذلك الصراع بنفس أدواته. ولو أتيحت لهم الفرصة لاشتبكوا من جديد كأنما يستأنفون حربا لم تتوقف. وقد كان: في لبنان، في العراق، هذا في التاريخ القريب فحسب.
وفي الحقيقة، لقد بقي تاريخ المسلمين منذئذ عبارة عن سلسلة من الثارات تدور حول نفس السؤال: سؤال الأحق بالخلافة. نُظِر إلى الأمويين على أنهم استولوا على الحكم دون الأحق به، الحسن ثم الحسين. وارتد الشيعة اللاحقون بهذه الأحقية إلى علي منذ حديث الغدير في حياة الرسول (ص). وأسبغت صفة "المظلومية" عليه وابنيه. بل ذهب المتطرفون منهم إلى اتهام النبي ذاته أنه سرق منه النبوة بعد أن أخطأ جبريل في ذلك.
لكن، ومن زاوية تاريخية محضة، وخارج الاصطفاف الموروث، أعتقد أن بعض الملاحظات حول المسألة ربما كفتنا الكثير.
1) في مستوى المنهج
يطغى على النقاش الاصطفاف إلى أحد طرفي صراع ذلك الوقت وكأن المعركة لا تزال قائمة. والسؤال: هل نحن مطالبون بأن نحكم بأحقية طرف على الآخر؟
ماذا لو اعتمدنا مقاربة تفهمية لدوافع الصراع وأخذنا مسافة منهما بمنطق "وإن طائفتان من المؤمنين..."؟
ماذا لو خففنا من المعجم الديني لننظر إلى الدوافع الاجتماعية والاقتصادية المتداخلة معه في الصراع؟
2) في مستوى المضمون
لا أريد أن أطيل في مسألة الخلاف وجذوره. بل سأكتفي بنقاش ما يبدو مسلمات عند البعض إلى درجة الارتماء في المعركة دون حذر من أن يكون وقودا في فتنة لم تنطفئ نارها بعد 14 قرنا.
ولنطرح بعض الأسئلة التي نراها تساعد في توضيح الفكرة.
1- ألا يبدو الانقسام امتدادا لصراع قديم ما قبل إسلامي بين بطون مكة حول مصادر السلطة والثروة داخل مكة، وقد حل في الجاهلية بتوزيع تلك الوظائف (السقاية + الرفادة + مفتاح الكعبة...) بين البطون الرئيسية للمدينة؟ ألا يبدو انبعاثا في ثوب جديد بعد أن نشأت دولة مركزية تولت فيها قريش القيادة.
2- لماذا تأخر عليّ (ر) في تولي الخلافة مع أن أفضاله كانت معروفة (قرابة النبي (ص)، زواجه من فاطمة (ر)، شجاعته ومهاراته الحربية، حكمته وبراعاته العلمية والأدبية...)؟
3- حين اغتيل عليّ (ر)، تقدم ابنه الحسن. وهنا تتبادر بعض الأسئلة: ما هو مصدر شرعية الحسن ليتقدم؟ الواضح أنه القرابة من علي (ر) باعتباره ابنه، ومن الرسول (ص) باعتباره حفيده من فاطمة ومن ابن عمه ومن ثمة من أهل بيت النبي (ص). ألسنا هنا ننزلق نحو التوريث الذي أوخذ به معاوية وبنو أمية؟ فماذا لو قدر للحسن أن ينجح في مهمته وبقي في السلطة؟ ألا نكون دخلنا في مرحلة التوريث والملك العضوض؟ ماذا كان سيكون موقف المناهضين لبني أمية الذين أرسوا الملك العضوض؟
يبدو إذن أن النظام الجديد (نظام الشورى) لم يترسخ بعد في ذهنية القاعدة البشرية للدولة الجديدة، وأن الآليات الاجتماعية-السياسية القديمة في إدارة المجموعات والقائمة على العلاقات القبلية لا تزال فاعلة. لذلك نلاحظ أن "الرأي العام" الإسلامي من هنا وهناك كان مهيأ لتقبل العودة إلى الآليات القديمة في الحكم. ولم يبق خارجا عن هذه العودة غير الخوارج (وهم أقلية) الذين أصروا على أحقية أي مسلم في الخلافة.
4- حينما ورّث معاوية الحكم لابنه يزيد، تحرك ضده كل من الحسين بن علي (ر) واتجه من المدينة إلى الكوفة، وقتل، وعبد الله بن الزبير في الحجاز والذي عاذ بمكة (وسمى نفسه العائذ بالكعبة). وقد اتخذ بدوره من أخيه مصعب واليا على العراق (نفس ما أوخذ عليه عثمان وقتل من أجله وهو اعتماد الأقارب، إلى جانب مآخذ أخرى).
ولنركز هنا على الحسين: ما هي دوافع تحركه؟ الاعتراض على التوريث والمطالبة بالعودة إلى الشورى بين بقية المسلمين؟ أم اعتبار نفسه أحق من يزيد بالخلافة؟ وفي هذه الحالة: ما هو مصدر شرعيته؟ أليس هو ذاته الوراثة لأبيه بعد أخيه؟ حينها سنكون في نفس دائرة الصراع: توريث السلطة. وسيَبزُّ الحسين (ر) غريمه بأن نسبه أفضل لاتصاله بالنبي (ص) بينما ينحدر الآخر من الطلقاء الذين حاربوا الإسلام إلى آخر لحظة (فتح مكة). لكن معاوية صنع سردية تنقض هذه التهمة إذ تنقل المصادر أنه قال إنه أسلم قبل ذلك منذ الحديبية (6 ه) وأخفى إسلامه عن أبيه حتى فتح مكة (8 ه). هذا دون أن ننسى أنه كان أحد كتبة الرسول (ص) (البعض يقول كاتبا للوحي والبعض الآخر يكتفي بكتابة الرسائل إلى القبائل).
هو سياق التوريث إذن.
5- ماذا لو وَفَى شيعة علي (ر) بوعدهم للحسين حينما دعوه إليهم ونصروه؟ كان مجال الدولة الإسلامية سينقسم إلى ثلاثة أقاليم: الكوفة وتوابعها للشيعة، الحجاز والبصرة وتوابعها لابن الزبير، الشام وتوابعها للأمويين. كيف كان سيحسم الوضع بين العراق والحجاز؟ هل كان ابن الزبير وهو حفيد أبي بكر من ابنته سمية والذي تربى في بيت النبي تحت رعاية عائشة (ر)، وأول مولود للمسلمين في يثرب، والفقيه العالم سيتنازل للحسين لمجرد أنه ابن علي (ر)؟ يعني هذا احتمال حرب بينهما، واحتمال مقتل أحدهما. وماذا لو كان الميت هو ابن الزبير: أكان سيتحول الحسين إلى قاتل؟ أكان سيحتفظ بهذا الوهج الذي يحتله اليوم في مهجة المسلمين عامة وخاصة الشيعة؟
ثم كيف كان سيحسم الأمر بعدها بينه وبين الشام؟ بالحرب والقتل؟ نفس التساؤلات إذن.
ثم ماذا لو انتصر؟ يفترض أن المجال سيعود إلى التوحد. فكيف سينتقل الحكم بعد الحسين؟ بالشورى مرة أخرى أم بالتوريث في "أهل البيت" (وهو الأقرب)؟ وهل يعني ذلك أن السلالة الحاكمة ستكون ملائكية بحكم القرابة من النبي (ص)، أم سيسري عليها ما يسري على كل السلالات الحاكمة من انحرافات؟
هو مسار التوريث إذن.
وبالتبعية: ما مدى شرعية الحديث عن مظلومية الحسين من هذه الزاوية بالذات وحسب؟ (أي بدون النظر إلى طريقة التخلص منه وجريمة اغتياله والتمثيل به والتشفي من أهله دون مراعاة قرابة النبي (ص))
ملاحظة: "البيت" مصطلح عربي ما قبل إسلامي. وكانت العرب تستعمل في الأنساب كلمتين قد تجتمعان وقد تفترقان وهما "العدد" و"البيت". والبيت يعني العائلة التي تتوارث السيادة، والعدد يعني الكثرة. فقد تجتمع الكثرة العددية والسيادة في فرع قبلي واحد وقد يفترقان. فهو إذن على علاقة بالتوريث.
ملاحظة ثانية: استعمل العباسيون شعار الحكم "لآل البيت". وعندما وصلوا إلى السلطة اعتبروا أنفسهم آل البيت وأقصوا الشيعة فاعتبروا خائنين. ولم يتوقف الشيعة عن السعي حتى أقاموا خلافتهم (الفاطمية) التي هددت حكم العباسيين لكنها لم تدم.
مرة أخرى نحن أمام سياق التوريث الذي لم يشذ عنه الأمويون. ويبدو أنهم وفروا شروط التفوق في هذا الصراع. بينما افتقد معارضوهم تلك الشروط. وفي حين اختفى ابن الزبير من الذاكرة الجماعية للمسلمين، تحول الحسين (ر) إلى رمز وشهيد خاصة عند شيعة أبيه الذين ذهب بعض فروعهم إلى درجة تأليهه واتهام النبي بسرقة الرسالة منه.
ولا تزال أصداء تلك المعركة تتردد بيننا إلى اليوم. ولا يزال البعض يشعر أنه جزء منها، مع ما يفترضه ذلك من استتباعات، وليس أقلها سؤال السلطة والثروة: ما الذي يجب أن نفعله اليوم لننهي هذا الصراع ونوقفه ونخرج من دائرته؟ هل هناك وريث للحسين نسلمه حكم المسلمين؟ وماذا بعد ذلك؟ هل نعود إلى الشورى أم نسلمها إلى ورثته؟
معركة عبثية للأسف