search

القوميون واليساريون: رمتني بدائها وانسلت

الحوار الذي اجراه كمال بن يونس مع المنصف الشابي (الحوار في اول تعليق)، مهم للغاية في كشف ما يجهله الكثير، وما يتجاهله البعض، بخصوص علاقة التيارات اليسارية والقومية باكثر المسائل حساسية، والتي تتهم فيها حركة النهضة والاسلاميين عموما وهي:

1- الاندساس والتغلغل في اجهزة الدولة.

2- تكوين اجهزة موازية داخل أجهزة الدولة.

3- الايمان بالعمل المسلح والتخطيط والتنفيذ للعملبات المسلحة والانتماء للتنظيمات المسلحة خارجيا وداخليا.

4- الارتباط بالتنظيمات الخارجية ولا سيما تلك التي تجمعها معها نفس الخيارات الايديولوجية.

إن كل العارفين بخريطة وتاريخ التيارات والحركات والتنظيمات السياسية التونسية، يعلمون جيدا انها انتهجت بشكل أو بآخر نفس النهح، واعتمدت بشكل أو بآخر نفس الوسائل.

كما يعلمون أن التيار القومي بحكم أسبقيته التاريخية، هو أول من مارس ذلك ... فقد كان انشقاق حزب الدستور، وظهور الحركة اليوسفية وارتباطها بالناصرية، المناسبة التي برز فيها التيار القومي الذي واجه بورقيبة اعتمادا على كل تلك الاساليب. ثم دخل التيار البعثي على الخط، في منافسة للتيار الناصري، من خلال الطلاب الذين درسوا في سوريا والعراق، ومن خلال مبعوثيه الديبلوماسيين والمخابراتيين، وما تتيحه العلاقة الرسمية بين دوله والدولة التونسية من إمكانيات وفرص.

دخل اليساريون من خلال الطلاب التونسيون في الجامعات الفرنسية، ومن خلال حل الحزب الشيوعي التونسي بعد 63، ومن خلال الثورة الثقافية الصينية. ومعلوم ذلك النقاش المبكر الذي دار بين مجموعة آفاق حول "الانتريزم".

استفاد التياران من حاجة الدولة لكوادر جديدة، واستبدال الكوادر الفرنسية، وتمكن خريجيهما من الدخول للإدارة والارتقاء في السلم الاداري. وهو الذي اوصلهما مع نهاية الثمانينات إلى ان يكونوا في مناصب وزارية و مناصب إدارية وامنية وعسكرية عالية.

التحق الاسلاميون بالركب بعد انتشارهم وحضورهم العام في اواسط السبعينات. وبرغم إصرارهم على التميز، إلا انه ما كان لهم ان يخرجوا عن الإطار الابستيمي العام، الذي كان يتحكم ليس فقط في الساحة التونسية، بل في العالم أجمع، مما سميته في بعض نصوصي "ابستيمياء" الحرب الباردة، حيث مقولات الجذرية والثورية والاتقلاب والقطيعة افرزت مناهج تغيير تمجد العمل المسلح والسرية والتغلغل والاندساس.

وقد اعجبتني ملاحظة ابداها عصام الشابي في مناسبة كانت في الحديث عن التجربة الطلابية حيث قال أننا جميعا لم نكن نؤمن بالديمقراطية.

ولمن لا يعلم فإن تنظيم الشعلة الذي يعتبر الأب الثاني بعد آفاق لليسار التونسي وخاصة فرع الأوطاد، لا زال قائم الوجود، وهو تنظيم سري. لكنه مبكرا، وبنصيحة اجهزة وقيادات عربية وغير عربية، اعتمد اسلوبا في العمل والتخطيط والتنظيم بعيد عن الاسلوب التقليدي للتنظيمات السرية.

لم تنقطع علاقة اليساريبن والقوميبن بكل تلك الاساليب، إلا من خلال ما نتج عن نجاح تغلغلهم في اجهزة الدولة، فأخذ الاندساس طابع الحرب على التغلغل المضاد. ولم يعد الأمن الموازي يأخذ طابعه التقليدي السابق، بعد أن اصبحوا هم من يسير أجهزة الدولة.

وتغيرت النظرة للتنظيم المسلح، بعد أن اصبحوا هم أيضا من يقودون بشكل أو بآخر اجهزة الدولة الصلبة، ونفس الشيئ لك ان تسحبه على العلاقة بالتنظيمات القومية واليسارية الخارجية، التي تحولت إلى علاقة بالدول والمنظمات والروابط العابرة للأقطار، ولم تعد في حاجة الى علاقة سرية لتنظبمات غير معترف بها، كما هو الشأن لوقت ليس ببعيد بالنسبة للاسلاميبن.

غني عن التأكيد ان تحول ارتباطات القوميبن واليساريبن من العلاقة بالتنظيمات الى العلاقة بالدول، ومن الاندساس في الدولة إلى إدارة الدولة، جعلهما في مرمى الخيارات "الدولوية"، وجعلهما توظفان من قبل اجهزة المخابرات المختلفة، في حركة استوعبتها تلك التيارات، بين ما تقتضيه الضرورة، وبين ما تدعو إليه الحاجة، للانخراط في الاجندات الكبرى، وممارسة التأثير، وتحمل تبعات التأثير المقابل. وقد قال مسعود الشابي القيادي البعثي في جناح العراق لحزب البعث رحمه الله، ان القوميبن كلهم ادوات في ايدي المخابرات، سواء منها مخابرات "الدول القومية" أو المخابرات التونسية أو غيرها وخاصة الفرنسية في تقاطعات معقدة.

وهو نفس الأمر الذي ينسحب على التنظيمات اليسارية، وخاصة العلاقة بالمخابرات الفرنسية، والمخابرات التونسية، وبعضها وخاصة الوطد، له ولادة مشبوهة في حضن المخابرات التونسية، مع علاقات متشابكة ومعقدة، بما للمخابرات التونسية نفسها من تقاطعات تفرضها طبيعة ولادتها بعد الاستقلال، كوريثة لمخابرات المستعمر، وتنسيقها مع اجهزة المخابرات العالمية الكبرى.

استوعب القوميون واليساريون التحولات العالمية، وانخرطوا بحكم سابقية تجربتهم مبكرا في التحولات الجنينية التي كبرت مع الزمن، وأخرجتنا من ابستيمياء الحرب الباردة الى ابستيمياء النظام العالمي الجديد والعولمة. وانتقلوا الى النحرك في الفضاءات الحقوقية، ثم في "المجتمع المدني" ودون ان يتخلوا عن الدولة.

والذين وقفوا ولا زالوا يقفون في مواجهة الاسلاميبن، ويحاكمونهم بتلك التهم، هم من مارسوا ذلك من قبل، ولا زالوا يمارسونه بشكل أو بآخر، ويستعملون الدولة اجهزة وقوانين، والفضاء المجتمعي : مجتمعا مدنيا وإعلاما ... لمحاربة خصم إيديولوجي، لم يفعل إلا ان اقتفى أثرهم، وتخلى كما تخلوا هم عما قاموا به ضمن فضاء ابستبمي قديم .. ولكنه لم يتورط كما تورطوا هم، في استعمال الدولة ماضيا وحاضرا في الحرب على خصومهم والتنكيل بهم، وممارسة أبشع أنواع النعذيب والتدمير ومحاولات الاستئصال.

حتى الازدواحية التي يتهم بها الاسلاميبن، كانوا هم يمارسونها في أبشع صورها، حيث مسالخ الداخلية التي يشرفون عليها ويديرونها تنتزع جلود الاسلاميبن، ومحاموهم ومنظماتهم الحقوقية تتمعش من الدفاع عنهم، وتزين صورتها بذلك لدى المنظمات المانحة كي يستمر تدفق الاموال لهم.

اضيف أخيرا، ان التيارين وقد جربا منافسة التيار الاسلامي ديمقراطيا بعد الثورة، وبان لهم عجزهم الكبير في منافستهم ديمقراطيا ... كفروا بالديمقراطية، التي لم تمكنهم من المسك بالدولة، لممارسة الاستئصال "بضخامة"، واستمسكوا بالدولة كجهاز لتنفيذ اجندتهم الاستئثصالية من خلاله، وناصروا ولا زالوا يناصرون الانقلاب .

النقطة الجوهرية في هذه المسألة هي: مالذي كان يدفع التيارات السياسية جميعها إلى الاضطرار الى اللجوء لتلك الوسائل؟

إنه القمع ونظام الحزب الواحد، الذي اغتال الديمقراطية في مهدها، ورضي بدور التابع، بل الامين على استمرار الاستعمار في ثوبه الجديد . إنه نظام تزييف الارادة الشعبية، والتنكر لقيم الشعب ... إنه نظام المحاكمات الصورية، وتصفية الخصوم، والاغتيالات المباشرة والموضوعية. إنه نظام سرقة ونهب خيرات البلاد، والخيارات الاقتصادية التابعة، والمدمرة لمقدرات البلاد.

تاريخ أول نشر 2023/7/31