search

المراجعة العميقة و المصالحة الشاملة شرطا النجاح للحوار مع الغرب

نص قديم كتبته في بداية الألفية ... بمناسبة دعوات الحوار مع الحركات الاسلامية التي أطلقتها بعض دوائر الإدارة الأمريكية ... أعيد نشره كما هو باعتباره "وعي اللحظة" وباعتباره كاشفا عن وجهة نظري في كثير من القضايا التي لا زالت صالحة للحوار والمناظرة.

إذا تعمق المرء في معنى الدعوة للحوار التي تردد صداها أخيرا ، فسيجد أنها ليست بدعا في التاريخ الغربي الحديث والمعاصر . فقد اضطر النظام الغربي - الاستعماري خاصة - إلى القبول بالتحاور مع حركات التحرر الوطني بعد أن يئس من قدرة الحكومات - التي عقد معها عقود "الحماية " أو "الإنتداب" أو التي استصنعها لنفسه – على حماية نفسها وبالتالي حماية مصالحه . وكانت صورة تلك الحركات وواقعها لا تقل عن صورة وواقع الحركات الاسلامية الآن من حيث قوة الحضور الشعبي في مؤسساتها وقاعدتها و"جمهورها" ومن حيث قوة حضور الشعار الاسلامي في خطابها وبرامجها (وخاصة البرنامج الحركي الجهادي – الإحتجاجي).

أما التاريخ المعاصر (والراهن) فإنه يقدم نفس الصورة خاصة في المنطقة الاسلامية غير العربية حيث حالات الحوار والتعاون كثيرة ومتعددة . كما أن التجربة العراقية ذات دلالات مهمة في هذا الاطار.

والغرب في كل ذلك منسجم مع نفسه ، ويعكس بصورة واعية خصائصه ، وخاصة فعالية وبراجماتية مؤسساته وعلى رأسها مؤسسات التفكير والتخطيط والاستشراف ومؤسسات "طبخ" التوجهات والاستراتيجيات والقرارات وما تتمتع به من تلقائية وحيوية وحرية وتنوع .

وهذا بالمناسبة ، دليل على أن الغرب لا يزدري التاريخ - على نحو ما نتوهم - وإنما يستدعيه لحاضره ومستقبله بالطريقة التي تناسبه وتنسجم مع خاصيتي الفعالية والبراجماتية .

ولعله من الطريف أن نذكر في هذا الإطار أن الغرب وهو يقرر فيما مضى "الحوار" كان الواقع قد وفر له تجارب "الصعود الاسلامي" إلى السلطة كما هو الحال في المملكة العربية السعودية ودولة باكستان الاسلامية ومحاولات أخرى ، تماما كما "جاد" الواقع الآن بـ "الصعود الاسلامي الجديد " متمثلا في جمهورية إيران الاسلامية "الشيعية" وإمارة إفغانستان الاسلامية "السلفية" وجمهورية السودان الاسلامية "ذات المرجعية الاخوانية" .

وعبر خطوط الزمن الثلاث كانت الفعالية والبراجماتية في تجربة الغرب تصاحب القرار في كل مراحله من لحظة إرهاصاته إلى صياغته وإقراره إلى تنفيذه ومراقبته إلى تقويمه ومراجعته عبر شبكة معقدة من المؤسسات العلمية والرقابية والتنفيذية والتشريعية ، تؤمن بالقصور في أي جهد بشري جماعيا كان أو فرديا، وتؤمن بأن الحرية والديمقراطية هما السبيل الوحيد للمراجعة والتعديل والإصلاح والتصويب ، وكل ذلك وسط الصراع المحموم والوحشي أحيانا على المصالح والمنافع المعنوية والمادية داخليا وخارجيا .

وكما استفاد الغرب سابقا من تواضع مكتسبات حركات التحرر على صعيد الرؤية الإيديولوجية والمشروع المجتمعي البديل مضمونيا ومنهجيا ، وتحلل جبهة النخبة وتوزع مشاربها ومنطلقاتها ومشاريعها، نلحظ نفس الصورة المأساوية الآن مع الأسف الشديد ، معززة بالسلبية الشعبية المتوارثة والناتجة عن الجهل المركب وفقدان روح المطالبة الواعية والمسؤولة والقدرة على التأثير الراشد في تصعيد الفاعلين أفرادا ومجموعات وخيارات وبرامج.

فهل أن البلاد العربية الاسلامية مقبلة على تجربة مكررة لمأساة قديمة تستعاد في جوهرها وإن اختلفت أشكالها؟!!

وبنفس القدر الذي تأكد فيه للغرب حضور الحركة الاسلامية القوي في الشارع كقوة احتجاجية وانتخابية في مختلف البلدان العربية والاسلامية، وتمثيليتها الكاسحة في الغالب لمختلف الشرائح الاجتماعية ، يتأكد له يوما بعد يوم ومن خلال "معاناة" و"مكابدة" بحثية واستخبارية واستطلاعية و"مقاومة" للدعايات المضادة من داخل الغرب وخارجه وللموروثات الثقافية من القرون الوسطى إلى الحقبة الاستعمارية، يتأكد له تجاوز الحركة الاسلامية تكوينا وبنية ومقاصد وبرامج لكل أشكال التنميط والتبسيط والاختزال ، مما يعني بداهة ضرورة تعدد مقاربات التعامل معها وضرورة تنويع استراتيجيات وتكتيكات التعاطي معها ودائما ضمن إطار الفعالية والبراجماتية . هذا يعني أن الغرب بمنهجيته المنوه بها قد راكم ويراكم باستمرار معلوماته عن الحركة الاسلامية بشكل يجعلها تتبدى أمامه كأوضح ما يكون تتيح فسيفساءها إمكانيات لا حصر لها من "اللعب" على الألوان والرسوم والأشكال والخطوط.

هكذا يقدر الغرب الآن الحركة الاسلامية ويحدد موقعها(مواقعها) و"وظيفتها" ("وظائفها") ضمن لعبة السيناريوهات التي يجيد صياغتها نظرا وواقعا ويعرف (أو يزعم) كيف يتعامل مع مفاجآتها.

فإلى أي حد ستتمكن الحركة الاسلامية ونخب التيار الاسلامي عامة من التعامل الواعي مع استراتيجية أو تكتيك الغرب الذي أفصح عن نفسه بشكل رسمي من خلال إرسال "بالونات" الاختبار الاعلامية و"التسريبات" البحثية و"الخطوات" العملية ؟

وإذا كان النظر المباشر لحالة الحركة الاسلامية في تشرذمها وتوزعها، والإختلال الكبير في مستويات وعيها وحضورها، وتبعثر مواقعها وما تفرضه من ضغوط لا تقل ثقلا عن وطأة الغرب، فإن بلاء التحدي مفروض وواجب النهوض بالاستجابة لا يقبل التردد.

لكن المسؤولية والأمانة تفرضان أن لا تكون الاستجابة مجرد عود على بدء وتكرارا للماضي. وهو محذور لا يمكن تجنبه إلا إذا أقدمت الحركة الاسلامية ونخب التيار الاسلامي عامة على خطوتين رئيسيتين هما :
- المراجعة الذاتية قصد إعادة صياغة مشروعها التغييري.
- الإصرار على إجراء مصالحة بين نخب الأمة واعتبار ذلك مقدم على أي حوار مع الغرب أو متوازيا معه على الأقل.
وبهاتين الخطوتين سيتوفر الوعي المتكامل والمقدرة العالية على إدارة تفاوض فاعل وعملي يحقق للأمة مصالحها ولا يحرم الانسانية جمعاء بما فيهم شعوب الغرب ذاته الخير العميم .

تعميق المراجعات المنهجية

لا يعد من الموضوعية في شيئ إنكار المراجعات الفكرية والحركية التي أقدم عليها التيار الاسلامي بحركاته ونخبه الفكرية، وهي تصل عند البعض وفي موضوعات كثيرة وحيوية اجتماعية وسياسية وتنظيمية مدى يتأسف المرء كيف يتجاهله غالب المفكرين البارزين والكتاب والمحللين من شركاء الوطن اللذين يسودون الصفحات ليلا نهارا و كأنهم وحدهم في الميدان!

وإذا كانت المراجعات الحركية لا تبرز بالصورة الكافية بسبب الطابع السري والاستثنائي الذي عاشته ولا زالت تعيشه معظم قطاعات الحركة الاسلامية، فإن ذلك لا يعني أنها كانت بمنآى عن التعديل والمراجعة. وربما كان التنظير الفكري ضعيفا والتقنين ضامرا أو مفقودا إلا أن الواقع كان يفرض أنماطا من المراجعات تجد طريقها العملي في آليات ومناهج العمل الحركية والتربوية .

وهي مراجعات تطورت مع الوقت على وقع تحديات الواقع والتجارب الناجحة والمريرة إلى أن وصلت إلى مستوى من "النضج" على يد ثلة من المفكرين منهم من هو عريق النسب بالحركة كالشيخان القرضاوي والغزالي ومنهم الرموز الحركية السياسية كعبد السلام ياسين والغنوشي والترابي والنجار والريسوني ومنهم المستقلون والمخضرمون كعمارة والبشري وأبوالمجد وعادل حسين وهويدي والعوا وحاج حمد والجورشي وغيرهم كثير .

وإذا كان يلاحظ على المراجعات عامة الطابع السجالي الدفاعي والتبريري في كثير من الأحيان فإن ذلك لم يكن ليسلب عنها روحا قلقة تحاول النفاذ من بين ركام الإنحطاط وغيوم التغريب. ورغم سطوة الوعي السياسي والثقافي العام الذي فرض على الجميع التحدد بإطاره والخضوع لروحه العامة وآلياته الرئيسية فقد كانت محاولات الإختراق تترى بحثا عن الجديد الأصيل. تجلت أكثر في التسعينات بعد أن انزاح كابوس " النسق الثقافي العام " ـ أو ما أسميه "إبستيمياء الحرب الباردة" ـ وانزاح معه أهم قطب مؤثر في التيار الاسلامي بمنافسته القوية والفاعلة على الصعيدين الفكري والسياسي الحركي ألا وهو التيار الماركسي. ورغم أن الفكر الاسلامي قد اشتغل على محاورة ونقد الفكر الغربي المادي الليبرالي إلا أنه لم يكن بحجم الاهتمام بالفكر الغربي المادي الماركسي إلى أن فرضت عليه المهمة في التسعينات بعد أفول نجم الفكر الماركسي .

ومن المفيد الاشارة أيضا إلى أن مقتضيات وإكراهات الخطاب التربوي والحركي التعبوي والسياسي قد شوشت على المراجعات، بما تفرضه من مراعاة للوعي السياسي العام واستراتيجيات وتكتيكات الفرقاء، والتدرج بالوعي القاعدي والحساسيات والإتجاهات الداخلية مهما تطرفت، والانضباط للقوانين واللوائح وما تقتضيه من تحفظ والتزام . كل ذلك قد جعل حجم المراجعات يبدو ضامرا ومرتبكا ومتناقضا مع الخطابات الأخرى، خاصة مع الطابع الشامل حتى لا نقول الشمولي للقيادة التي تكاد تنطلق منها جميع الخطابات التربوية والحركية والسياسية والفكرية، وفي ظل انسداد مجالات الحريات التي توفر فرص الحوار إثراء وتطويرا وتدافعا .

وإذا كان من الصعب أن يخامر منصف شك في أن الفرقاء الآخرون عموما - حكاما ونخبا وقطاعات من الشعب - لم ينصفوا الحركة الاسلامية، حيث مالوا في الغالب بوعي أو بدون وعي إلى نزع الصفة الانسانية والاجتماعية والتاريخية عنها ، بما تحمل من تعقيد وتشابك وحركة ونمو وتطور وتأثر ونسبية، إلا أن الحركة الاسلامية مع ذلك ما زال أمامها جهد كبير في المراجعة مطالبة ببذله حتى تتمكن من الانتصاف لجهدها، وهو "الخلق" الذي عليها التحلي به ما دامت تعتبر نفسها حركة تغييرية تبغي الإصلاح . ذلك أن كل ما يبدو نقصا أو إجحافا من الآخر يجب أن يحمل على الجهل بك ، إذ "عدوك من لا يعرفك"، وعليه فلا حل إلا بمزيد من المسؤولية ومزيد من الشفافية ، وطالب الحق عليه بذل الواجب، وإذا لم تحصل على حقك فمعنى ذلك أنك لم تبذل واجبك المطلوب منك .. وهذا من معاني الابتلاء .

وإذا كان التيار الاسلامي الوسطي يعلن القطع مع رؤى القطيعة والتكفير ويدعو إلى تفاعل بين قطاعات الأمة ومؤسساتها بما فيها الدولة قائم على الحوار والتعايش ، كما يعلن تجاوزه لكل أشكال المفاصلة والهجرة عن المجتمع وما تقتضيه من مناهج صفوية و/أواستيعابية و/أو انقلابية و/أوعنفية، فإنه من دواعي الشفافية والوضوح أن يقر بأن الخطاب والممارسة فضلا عن المشاعر لا زالت محملة برواسب تلك المناهج خاصة في الخطاب التنظيمي والتعبوي ، وأن المراجعة الحقيقية هي التي تقوم على منظومة فكرية متماسكة وممارسة عملية داخلية تعكس ذلك، وإلا فإنه من الواقعي أن تفهم أنها "حيلة المضطر" وأنها "تكتيكات العاجز" تفضحها "آهاته وزفراته" و"نشوته وسكراته". و إذا كان من واجب الطرف المقابل أن يفرق بين الخطاب الرسمي وبين غيره من الخطابات، وأن يقدر المجهود المبذول من أجل تطوير الفكر والممارسة، فإن على التيار الاسلامي أن يقدر أيضا حجم التنافر في الخطاب وثقل الممارسات وأن لا يستهين بحجم المشاعر والنفسيات التي لا يستطيع الآخرون غض الطرف عنها ودورها في العملية التغييرية. ولذلك فإن مما يتأكد لي أن التيار الاسلامي مطالب بأن يتحلى بشفافية أكبر وأن يكون قادرا على التفريق بين خطاب المرافعات القانونية الذي يصلح في أروقة المحاكم وخطاب المناورات السياسوية وبين الخطاب الفكري والسياسي الذي يحتاج لآليات وطرائق استدلال وإلى تشخيص الأوضاع ونقد التجارب بجرأة لا تستنكف عن تحمل المسؤولية السياسية والفكرية - وهي تختلف و لا شك عن المسؤولية القانونية – مما سيحسب في رصيده ويكسبه شرعية أكبر.

عندما يصر البعض على خطاب المرافعات القانونية فإنهم لا يزيدون على تعميقه وتكثيفه شيئا يذكر، وفي المقابل لن يقدموا كثيرا في الخطاب الفكري والسياسي بل سيساهمون في تكثيف ظلال الشك والخوف.

ما الذي سيضر التيار الاسلامي حين يقدم خطابا فكريا وسياسيا ينقد فيه تجربته في منهج التغيير التي كانت قائمة على المنظور الجذري في التعامل مع المجتمع والدولة ابتداء من السرية في التنظيم إلى الاختراق أوالاندساس في مؤسسات المجتمع والدولة لتغييرها من داخلها أو توظيفها لمصلحة منظور"انقلابي" ، إلى التغيير بالقوة المادية انقلابا أو ثورة ؟ المشكل الحقيقي - الذي يعاب تجاهله ويكثف من ظلال الشك - هو أن هذا المنهج ليس مجرد تنظيرات وإنما هو واقع عملي تعرفه الحكومات من خلال عملها الاستخباري والأمني ومن خلال ما انتزعته من التنظيمات خلال التحقيقات التي لا تثبت قانونا ولكنها لا تلغي واقعا بمعنى ما، وهو واقع يعرفه الفرقاء الآخرون من خلال متابعتهم للتيار الاسلامي وتنظيماته بل وصرح به بعض أفراد التيار ومن بعض تنظيماته، ولا يفيد إزاءه استغفال الناس بخطاب المرافعات القانونية ومناورات الخطاب السياسوي المعهود.

أنا أعرف أن هذا الكلام يزعج قيادات التيار الاسلامي وقاعدته أيضا، وهم بانزعاجهم لن يزيدوا إلا الشك في نواياهم وبرامجهم، برغم أن الذي يبدو للوهلة الأولى أن الإنزعاج منصب من الخوف من تثبيت تهمة الإرهاب على الحركة الاسلامية . لكنني أرى في المقابل أن الإصرار على الإنكار أكثر ضررا، فالرجوع إلى الحق والإعتراف بخطإ التقدير والاستغفار - بلغة الترابي العميقة – فضيلة إنسانية ودينية، كما أن التيار الاسلامي - وهذه حقيقة هامة جدا على الجميع الانتباه إليها - لم ينفرد بهذه الرؤية التغييرية، بل هي قاسم مشترك بين الحركات المعارضة لم يتخل عنها إلا الذي ضعفت حيلته فيها أو بعض من الذين خرجوا من رحم الأنظمة الحاكمة . إنها منتج "الحرب الباردة" و"موروث حقبة التحرر الوطني" ألبستها الفصائل "حللها" الإيديولوجية الخاصة بها وصنعت لها- كل على حدة- مساقاتها التاريخية وإرثها الرمزي، فإذا هي مصطلحات لحقيقة واحدة وإذا المشاحة تكاد تكون فقط في الاصطلاح. و لم يكن "وزر" التيار الاسلامي غير أنه آلت إليه "قيادة الجماهير" بعد ترهل المشروعين القومي والماركسي ومع بداية انهيار"نظام الحرب الباردة" ، فقاد الساحة الجديدة بأنظمة وآليات ومناهج قديمة معززة بحمولة نفسية مما نسميه الطهورية الثورية والتي تجعل من مجرد فشل الآخرين صواب الذات وصلاحيتها . وربما نستطيع القول أنه فرض على التيار الاسلامي ذلك، لأنه وعي المرحلة، لم تستطع نخبته اختراقه ولا تركت لها الجماهير وخاصة قواعده وقوى التغيير الاجتماعي عامة إمكانية ذلك . أما نخبة التيارين القومي والماركسي فقد استوعبت الدرس من فشلها ومن تقلص حضورها الجماهيري فتخلت عن "الأليات الثورية" إلى "الأليات السلطوية" وبين " الماكينتين" قاسم مشترك هو"الرؤية الإنقلابية الفوقية" . وهناك تتحد السلطة والمعارضة ولا يكون هناك فرق بين من يمسك السلطة -إثر عملية انقلاب أبيض أو أحمر أو دون ذلك - وبين من لم يمسكها إلا النجاح في الانقلاب الذي يرفع أقواما كان من الممكن جدا أن يعلقوا على المشانق أو يرموا في غياهب السجون لو بادروا وفشلوا .

وهكذا لن يكسب التيار الاسلامي وهو يقدم رؤيته الفكرية والسياسية بنقد تجربته بوضوح وشفافية غير احترام الناس وارتفاع مصداقيته وطمأنة فرقائه وتأكيد دعاويه في التعايش والتصالح وحق الشعب في الاختيار وإيمانه العميق بقيمة الديمقراطية .

وبصدد موضوعة الديمقراطية ، يتعجب المرء حين يعمد البعض إلى سوق التبريرات على عدم أخذ الحركات الاسلامية بالآليات الديمقراطية - كلا أو جزءا - من إلزامية الشورى والانتخاب والتمثيل الموضوعي والسليم واللامركزية والعمل المؤسسي والتداول على السلطة وحرية تدفق المعلومات والحوار والاستشارة تارة بالظروف الاستثنائية التي تعيشها الحركات - وهو إحساس فرضه الغفلة عن وضع المنهج التغييري السري الشمولي الانقلابي موضع التساؤل - وتارة بالفرق بين الحركة والدولة مع أنه حينما جربت بعض الحركات الدولة كان الوضع أشد وأنكى من أيام الحركة . وكلها دعاوي لا تثبت على ساق و ليس لها من مبرر غير تواضع القناعات الفكرية بقيمة الشورى والديمقراطية والانشداد للموروث التسلطي القديم والجديد. ومما يؤسف له أن يأخذ التبرير للوضع القائم وادعاء ديمقراطيته بالحديث عن الانتخابات التي تجري وتعدد الرؤساء على الحركات مع أن ذلك إن حدث لا يعدو "التداول القسري" الذي فرضه سجن الأول أو هجرته أو موته . والمشكلة ليست في تسلط الرئيس وإنما في استسلام النخبة وعدم تعمق قناعتها بقيمة التداول واللامركزية والشورى ورهبتها من التغيير، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه المهزلة حيث يعايش الرئيس أجيال الحركة تتداول عليه أو "يتداولها" بفعل الضرورة غالبا وهو ثابت لا يتزحزح، أو تصبح مشاركة من أعمارهم في الخمسينات والستينات للقيادة "تشبيبا" لها! لا أدري كيف يسوغ لنا أن نماري في هذه الحقيقة المرة أو نتجاهلها ونهتف ليلا نهارا بضرورة التداول على السلطة في مؤسسات الدولة ولا سيما الرئاسة ؟!

وإذا كان التداول في حقيقته استجابة لناموس التجدد في الحياة والكون الذي يجعل مجرد الوقوف عند صيغة أو رؤية ضربا من التخلف، و إذا كانت قدرة الانسان الفرد على التجدد الدائم محدودة، فإن التداول سيكون أوكد عندما يكون الأمر ليس مجرد توقف وإنما فشل في التخطيط أو التنفيذ أو في مواجهة المستجدات.

لا شك أن الإيمان بهذا الأسلوب وغيره لا يكون طبيعيا وتلقائيا إلا عندما يرقى الإيمان إلى درجة التصديق بالحديث النبوي الشريف: "ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن" والمسلمون هنا هم عامة جماعة المسلمين وليس الجماعة الاسلامية ولا النخبة الاسلامية ولا الزعامة الاسلامية فردا كان أم مجموعة .
لقد "تجرأ" الكثير من قيادات الحركات الاسلامية على نقد الموروث التسلطي الذي اعتبروه أحد أسباب ما نحن فيه من تسلط الدولة والحكام وعددوه ابتداء من سطوة الأب إلى عصا المؤدب إلى أوامر الشيخ إلى سوط الحاكم. وهم مطالبون في نظري أن يعتبروا طغيان كل ذي سلطة في سلطانه استبدادا، وأن من لم يأخذ بالشورى والديمقراطية بآلياتها الرئيسية التي ذكرت إنما أخذ بالاستبداد سواء وعى بذلك أو لم يع. وماذا سينفع تحركه عندما يكثر اللغط وتتراكم حزازات النفوس ويبدأ ويستفحل التشابك والتهارج ويرتكب الظلم الصراح اللذي تنتهك فيه الحقوق ويتسع فيه الخرق على الراقع ؟!

ويبدو لي أن مسلمة الاسلاميين التي تقول: "إننا نؤمن بآليات الديمقراطية وليس فلسفتها" يجب أن تراجع أو تدقق. فقد أدى هذا إلى اعتبار هاته الآليات مجرد أدوات ليس لها قاعدتها "الفلسفية" فلم تأخذ حيزها وعمقها المطلوب في الإيمان بها. والمطروح أن نؤمن بالفكرة الرئيسية التي انبنت عليها الديمقراطية كوسيلة وهي: "أن أمر الناس يوكل إليهم لا لأحد عليهم كائنا من كان"، وأن القاعدة التي تجعل النص مقدم على اختيار الناس تنطوي على مغالطة، ذلك أن النص في التحليل الأخير يقرأه الناس: يفهمه ويفسره ويؤوله وينزله الناس. ولا يمكن أن تكون القراءة مخالفة لمراد النص ما دامت قائمة على الاختيار الحر للناس. ويعجبني قول رضوان السيد في هذا الصدد:" الذي يجعل الدين معصوما فعلا هو أن نكِله إلى معصوم ولا معصوم غير جماعة المسلمين" ( و ليس الجماعة الاسلامية طبعا ). وهو رأي الترابي وغيره في مفهوم الإجماع. و قد رفض الترابي إعطاء سلطة استثنائية للعالم أو السلطان مقدمة على رأي الناس وقال من كانت له حجة فلينشرها بين الناس. كما اجتهد الريسوني في التأصيل لمفاهيم التقريب والتغليب والأغلبية والأكثرية واعتبارها المبادئ المنهجية التي قامت عليه العلوم الاسلامية بما فيها علوم العقيدة وصيغت بها الأحكام الشرعية وهي التي يجب أن يدير بها الناس شؤونهم .

إذا كان من الجلي أن الحرية هي القيمة الرئيسية التي ينبغي أن ينبني عليها الاجتماع الانساني كما يرى الغنوشي والترابي وغيرهما وأنها مقدمة على الشريعة، فإن الديمقراطية المعاصرة بشكل إجمالي تقدم الشكل العملي المناسب لقطف ثمار الحرية. والديمقراطية بهذا يجب النظر إليها كمكسب إنساني طوره الغرب كحامل للإرث الحضاري العام في هذا المضمار، وأنها منفتحة على التعديل والتطوير الذي يقويها كشكل عملي لتجسيد الحرية، وأن الشورى كقيمة نظرية عامة لن تجد تعريفا عمليا لها أفضل من الديمقراطية.

هذه هي البوابة الرئيسية للمراجعة والتي على الحركة الاسلامية تعميق الحوار حولها ومن ثم تبنيها كثابت منهجي لإصلاح الذات وتغيير المجتمع . أما القضايا المضمونية للمراجعة فهي كثيرة ومتعددة تحتاج معها الحركة الاسلامية إلى أن توليها الجهد المطلوب من تفريغ الطاقات والاهتمام أكثر بالاعداد الفكري والتخطيط الاستراتيجي وتوسيع منابر الحوار الداخلي والخارجي والتعامل مع الفرقاء كشركاء حقيقيين في الحل المنشود تفكيرا وممارسة . لقد قيل "أننا نعرف ما لا نريد و لكننا لا نعرف ما نريد" وهو قول صحيح يتجلى في موجات "النقد السلبي" التي لم تترك مجالا إلا طالته، ولكن "النقد الإيجابي" التجاوزي لا زال ضعيفا، يبرز أكثر ما يبرز عند المفكرين المستقلين ويضمر عندما يصل الحركات والتجمعات الحركية والسياسية. و هو أمر مفهوم ولكن لا يمكن أن يبرر إذا استمر. إنني أدعو إلى مرحلة جديدة من شعاراتها : تقديم المجتمع عن الصحوة والصحوة عن الحركة والحركة عن الفرد، وتقديم الثقافي الاجتماعي (المجتمع) عن السياسي الحزبي (الدولة). بمعنى ضرورة تجاوز ما يمكن تسميته بالمنهجية الانقلابية الفوقية وتبني المنهجية الاصلاحية البنائية، حيث الجزء خادم للكل والأدنى مندرج في مصلحة الأعلى ومقاصده وغاياته.

إن التحدي الذي يواجه الجميع الآن هو بديل جديد يحل معضلة تدبير وإدارة الشأن العام وفق رؤية جديدة محفزة بالقيم الربانية والانسانية أكثر من اعتمادها على التجربة التاريخية التي لا بد من الاعتراف بقصورها الكبير ليس فقط من جهة دعوى الخصوصية عندما يكون الحديث عن التجربة الغربية ولكن أيضا من جهة بساطة ومحدودية وتاريخية التجربة الذاتية. إنه تحد لا يتجاوز بمجرد إحلال "نخبة طاهرة" لا تحمل في جعبتها إلا النوايا الطيبة التي سرعان ما يبتلعها التنين الهوبزي.

لا زال ينتظر الاسلاميين جهد ناصب ليس فقط لإصلاح السياسة وبقية المجالات الحيوية، و لكن قبل ذلك و معه إجراء "عمليات جراحية" للخطاب الاسلامي بتمظهراته المختلفة، لغة وأدوات وأسلوبا، في تواصل مع الجهود المنوه بها أعلاه، و في انسجام مع تجديد الدوافع والمقاصد والرؤية المنهجية العامة. فـ"في البدء كان الكلمة"، والكلمة "فعل" أيضا يحمل ما تحمل الأفعال ويتحمل ما تتحمله. وما لم تتناغم الخطابات مع بعضها ومع المقاصد والأفعال فستظل ينقض بعضها بعضا وتهدم نفسها بنفسها وتستمر كإحدى عقد برنامج التيار الاسلامي وبدائله التي تصغر أمام تأثيرها تحديات معارضة الفرقاء وبدائلهم. وهكذا فمعضلة الخطاب هنا ليست فقط معضلة الخطاب السياسي وإنما سائر الخطابات بل لربما كانت معضلة الخطاب السياسي انعكاس لمعضلة الخطابات الأخرى وتنافرها.

نحو مصالحة قائمة على المواطنة والتراضي

لا يسع المتتبع لخطاب الحركة الاسلامية والتيار الاسلامي الوسطي عامة إلا أن يلاحظ تراجعات تكبر وتتعمق مع الزمن لخطاب القطيعة الذي برز مع مرحلة "الاستقلال" وتعمق مع المواجهات التي نشبت بين الحركة الاسلامية والنخب "العلمانية" بأطيافها الثلاث . والناظر في بنية ذلك الخطاب يلاحظ نزعته الجذرية التي لم تكتف بمنازعة الخصوم في مواقعهم وأفكارهم بل امتدت إلى جذورهم التاريخية من خلال نقض وتقويض الخطاب الاصلاحي منذ بواكير النهضة والحط من رموزه وحركاته ، وكذلك جذورهم الحضارية باعتبارهم يحملون مشروعا "مستوردا" يمثل النقيض الجذري لهوية الأمة وعقيدتها. وبقدر السعي الكبير في محاولة التميز التي قام بها أصحاب المشروع الاسلامي إلا أنه عند التدقيق في روحه العامة لم يكن إلا تلوينة من تلوينات الخطاب العام الذي ساد المنطقة بل ساد العالم وخاصة "الثالث" منه. إنه خطاب الحلول الجذرية الحدية (لاحظ أن استعمال ألفاظ الانقلاب والثورة والقطيعة والراديكالية مما يزهو بها الجميع في السلطة والمعارضة ويزين بها الخطاب المسموع والمقروء وفي المقابل ندرة استعمال ألفاظ الاصلاح وغيرها لما تحمل من معنى قدحي لا تصلح إلا للسباب والشتيمة والتخوين)، وهو أيضا خطاب الرؤية المانوية(من ليس معنا فهو ضدنا) والتكفيرية(العمالة والرجعية وغيرها).

لقد لعبت الضغوط السياسية والمواجهات المتتالية مع الأنظمة والاحتكاكات - الخشنة أحيانا - مع الفرقاء، وبروز الجناح التكفيري بتفريعاته، وأيضا بروز نخبة من المفكرين والمثقفين والمشائخ المستقلين أو اللذين تحرروا من ضغوط الجهاز التنظيمي اختيارا أو اضطرارا، لعبت هذه العوامل جميعا وبأقدار متفاوتة - من تنظيم إلى آخر ومن بلد إلى آخر – في دفع الحركة الاسلامية إلى إعادة قراءة الواقع والتاريخ بمنظور إيجابي تبحث فيه عن عناصر الوصل عوضا عن الفصل.

وصدرت عن الحركة الاسلامية رؤى ومبادرات عملية للتعاون والتحالف والتصالح تجاوزت الخطوط الحمر السابقة، واستعدادات للقبول بالآخر والاعتراف به على الساحة ليس فقط كمعطى واقعي ولكن كشريك أصيل من المنظور الديني والفلسفي الانساني. وبطبيعة الحال فقد بدأ ذلك محدودا مضطربا وتوسع وتعمق بعد ذلك.

والذي ندعو إليه هو مزيد من تعميق هذا الوعي التصالحي التعاوني باعتباره الطريق الأصوب والممكن في نفس الوقت لإصلاح المجتمع وبناء جبهة داخلية موحدة قادرة على محاورة الآخر .

ذلك أن الديمقراطية العددية ( الشعبوية ) وحدها غير قادرة على إتاحة فرصة للتغيير أمام تنازع ايديولوجي عميق في صفوف النخبة التي تستولي أو ترغب في الاستيلاء على النفوذ الإداري والتوجيهي والتأطيري داخل المجتمع. إنه لا مجال لإحداث تغيير حقيقي دون بناء الديمقراطية على قاعدة التراضي بين النخبة. وهذه ليست دعوة إلى ديمقراطية نخبوية مركزية ولكن التجربة أثبتت أن الشعوب، وربما شعوبنا بشكل أخص وبفعل تراكمات تاريخية، مستعدة للإختيار ولكنها غير مستعدة لأن تحمي اختياراتها إذا اغتصبت. وقد يكون هذا نوع من اتهام لا تقبل به هاته الشعوب، والأولى أن نثق في ذكائها وحكمتها حيث ترفض الانجرار وراء كل ما يؤدي إلى التحارب والفتنة الداخلية، ويدلل على ذلك باندفاعها واستعدادها لمواجهة الغازي مهما كان الثمن.

توجد خشية حقيقية من "ديمقراطية صندوق الاقتراع" التي تمكن جزءا من النخبة من المسك بسلطة القرار والتنفيذ والتوجيه وفق رؤية تقدم نفسها على أنها النقيض الحضاري والفلسفي العام للنخبة الماسكة بالسلطة، وليس فقط مجرد "المعارض السياسي" . ومن هنا ذلك الشعور الطاغي من قبل تلك النخب بأن ما يحصل ما هو إلا انقلاب لا يختلف على غيره من الانقلابات إلا في الوسيلة. وهذا أيضا جزء مما يفسر ردود الأفعال التي حصلت في الجزائر وفي تونس. إنه ليس من الحكمة في تقديري غض الطرف عن وجهة النظر هذه والتمسك فقط بالقول بلاديمقراطية هؤلاء وخوفهم على مصالحهم.

ربما كان التاريخ شحيحا في تقديم نموذج من التصالح والتراضي بين مشروعين يقدمان نفسيهما على أنهما متناقضين سواء في البدائل المجتمعية أو في وسيلة الحكم الرئيسية . فالنظام الديمقراطي على تلويناته كان مصرا في تجاربه الرئيسية على حالة من النفي للآخر الذي ينظر إليه على أنه نقيض مثل النقيض الشيوعي في أمريكا و الملكي في فرنسا. كما أنه – أي النظام الديمقراطي – أخفق في أن يكون نظاما عالميا، حيث استمر في العموم متنكرا لمبادئه على الصعيد الخارجي باستثناء البرامج والسياسات الدعائية والتمويهية اوالمواثيق والعهود التي فرضتها المجموعة الدولية نظريا واغتالتها الأنظمة الديمقراطية الكبرى واقعا قبل أن يجف مدادها.

إن شراسة الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي والاسلامي وفي ما يسمى سابقا بالعالم الثالث عموما إنما تمت بتواطئ ودعم الأنظمة الديمقراطية الكبرى بسبب ما تراه في الديمقراطية المفترضة باعتبارها نقيضا لمصالحها.