لا زالت حرب طوفان الأقصى تشهد ترددات في الوطن العربي ويبلغ صداها وعمقها الإنساني والوطني مدى واسعا لم يزل يتمدد ليشمل مساحات واسعة من الجغرافيا البشرية للمؤيدين للحق الفلسطيني في المجال الاممي للعالم الحر.
وبقدر ما يجد شباب العالم ومناضلاته و مناضليه القضية العادلة التي تستحق ان يتوحد حولها بقدر ما تشهد مجتمعاتنا الوطنية والإقليمية حالة من التردد والارتباك والتشظي، والتيه عن ادراك الهم المشترك ووعي المهام الاستراتيجية والملحة التي توحد مجتمعاتنا واوطاننا حول غايات النهوض الكبير واهداف الثورة الفتية وفاء للشهداء واخلاصا لطموحات الشباب وتطلعات الشعوب.
فما الذي حصل لبلداننا حتى تصاب بهذا التصدع والفراغ؟
كثير من الباحثين والمحللين قدموا اطروحات في الأسباب والمسببات الا انها كانت اطروحات وتحاليل لواقع الأوطان والمجتمعات تقف عند الابعاد الذاتية والموضوعية بمقاربات مدرسية لا ترقى الى مستوى سبر اغوار الازمة التي تعيشها الدولة الوطنية وفحص اعماقها باعتبارها ازمة بنيوية وليست مجرد أزمات ظرفية وسطحية تحسمها بعض الفتاوى الفقهية والمادية الجدلية والاحكام المعيارية حول الحق و الباطل والخيانة والوطنية. احكام وتقديرات لا تقنع ولا تسمن ولا تغني من جوع ولا تحدث تغيرات حقيقية على الأرض.
فما الذي جعل من الازمة ازمة ومن الوطن وطنا؟ لقد كان سؤال احد الأصدقاء في مقال ملفت وجيد له صارخا وصادما. هل كانت الدولة الوطنية دولة وطنية بحق؟
وهو سؤال يقتضي العودة الى السنوات الأولى لنشاه دولة الاستقلال زمن تشكل الدولة الوطنية. هل كانت الدولة الوطنية قد استكملت جميع اضلاعها وحققت جميع شروط تشكلها؟
· فما هي الدولة الوطنية أولا.
الدولة الوطنية وفقا لما أجمعت عليه عديد التعريفات السياسية هي جماعة ثابتة من الناس، مؤلفة تاريخياً، لها لغة مشتركة، وأرض مشتركة، وحياة اقتصادية مشتركة، وتكوين نفسي مشترك يجد له تعبيراً في الثقافة المشتركة. تعتمد نظاما قانونيا ومؤسسات تسييرية تحتكر قوة الاكراه المادي مقابل حماية حرية مواطنيها وضمان امنهم وعيشهم الكريم.
وكانت عودة الحبيب بورقيبة اول رئيس لدولة الاستقلال من فرنسا يوم 1 جوان 1955 يوما تاريخيا مشهودا بعد ان انفرد بقيادة المفاوضات مع فرنسا على شروط نيل الاستقلال الداخلي وتسلم مقاليد سلطة ستكون حجر الزاوية في بناء الدولة الوطنية وفق التصور السياسي لبورقيبة وحزبه.
واحيط يوم العودة بجملة من التدابير الأيديولوجية والبروتوكولية مثل إطلاق تسمية عيد النصر على يوم العودة الموسوم باستقبالات حلق الوادي الصاخبة. وتسمية الزعيم بالمجاهد الأكبر وإعلان العودة من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر تمثلا لقداسة الحديث المأثور عن النبي.
وتم اعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 وصدر دستور 1959.وانطلقت صيرورة دولة قوامها الشعب والأرض والمؤسسات في ظل جدل وصراع دموي محتدم حول طبيعة الدولة وطبيعة الاستقلال وشروطه الجلية والمخفية.
الأرضية الاجتماعية والتاريخية للدولة الوطنية
لقد كان تأسيس الدواة الوطنية في تونس لحظة فارقة زمن ما بعد الاستعمار ومن ثم فهي حدث تاريخي كبير بامتياز. لكن إذا جازت لنا المقارنة بين الأرضية الاجتماعية والتاريخية التي قامت عليها الدولة الوطنية في أوروبا وتلك التي قامت عليها الدولة الوطنية في تونس سنجد البون شاسعا.
فالدولة الوطنية في أوروبا كانت قد استوعبت داخلها لدى تأسيسها خلاصة ما وقع من تحولات كبرى سابقة فبدت مكتسبات تلك التحولات تصب جميعها في مجرى صيرورة قيام كيان الدولة الوطنية ونشاتها وكانت بمثابة المرتكزات الأساسية التي لا غنى لقيام الدولة من دونها.
فقد كان للإصلاح الديني اللوثري الذي جاء بعد الحروب الدامية دور في تحرير المجال السياسي وازاحة سلطان المعوقات البابوية الكاثوليكية وتفكيك النفوذ المعرفي الذي احتكرته طويلا. كما ساعدت التحولات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة على الاعداد للقاعدة الاجتماعية والاقتصادية لنشأة الدولة وهي تحولات اطلقتها الثورة الصناعية وتوسع النظام الرأسمالي. وكانت تلك التحولات شروطا مترابطة لنشأة تمخض عنها ميلاد السياسة بالمعنى المدني والمعاصر للكلمة.
القاعدة الاجتماعية والتاريخية للدولة الوطنية في تونس
لندرك أولا ان الدولة الوطنية العربية والتونسية تحديدا لم تولد نتيجة تطور تاريخي، بل تم استيلادها ولادة قيصرية عسيرة أدت الى غياب المشروع الوطني المتمتع بالحرية والاستقلالية ونحت منحى استبداديا شموليا عاجزا عن الانفتاح الديمقراطي. كما أدت الولادة القيصرية الى تلبس الازمة الأخلاقية بالدولة الوليدة فتورطت في العلاقة السيئة بكل ما هو ديني، بكل مرجعياته الاجتماعية والشعبية.
وفي الواقع تعود جذور الدولة الوطنية التونسية الى مكونات الحركة التحريرية الوطنية وتطوراتها والتي لا تختلف كثيرا عن المكون الاجتماعي والثقافي للدولة العربية مع اختلاف في السياقات والتفاصيل.
وتفصح تلم المكونات عن وجود:
· الحركة الوطنية الزيتونية
· والحركة الوطنية الصادقية
الذين شكلا قاطرة الانتظام السياسي للحركة الوطنية التحريرية
· كما كان للحراك الاجتماعي المدني ممثلا في المنظمات النسائية والشبابية والحراك الطالبي الزيتوني والنقابات الوطنية دور حيوي رافد للحركة الوطنية التحريري.
· وتولى المزارعون والفلاحون في الريف مهام الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار التعاون مع نقابة حشاد والرصيد الكمي للحراك الطلابي الزيتوني.
· شريحة الانتلجنسيا الدارسة في فرنسا ومنهم الحبيب بورقيبة ورفاقه.
وغداة الاستقلال تم احتكار بناء الدولة الوطنية من قبل مكون واحد هو شريحة الأنتليجنسيا الدارسة في فرنسا التي استأثرت بالدولة وتعمدت الفصل الحاد بين الحركة الوطنية الزيتونية والحركة الوطنية الصادقية وثوار الريف من المزارعين الذين سموهم بالفلاقة أي المتمردين وهي في الواقع صفة استعمارية فرنسية تستهدف شرعية ثوار الجبال والريف الذين تولوا اصعب مهام التحرير الوطني.
القاعدة الايولوجية للدولة الوليدة
لم يكن تأسيس الدولة الوطنية وفيا لمكونات الحركة التحريرية التي تولدت عنها بل كان تقسيميا وإقصائيا مغرقا في ادبيات الأجهزة الأيديولوجية التي تهمش دواخل الجمهورية وتهمش جذورها الوطنية الإسلامية الجمهورية. وتتعالى على الكوادر والاطارات الزيتونية رغم سجلها الملحمي في الإصلاح والكفاح التحريري بآفاقه التونسية والمغاربية والعربية. وحرموا من المسؤوليات والوظائف المركزية في الدولة رغم ما يحملونه من كفاءات توازي كفاءات رفاقهم الصادقيين وشرائح المتعلمين في فرنسا.
لعبت الأجهزة الايديولوجية لدولة بورقيبة الفتية لعبتها باحترافية عالية لم يتفطن أحد الى بنيتها التحتية التي اعتمدت المقرر الفرنسي في التعليم والتنظيرات الفلسفية لمحجوب بن ميلاد ومنهجه في تحريك السواكن الذي لم يستهدف بها الدوغماتية بقدر ما استهدف الموروث الوطني والروح الوطنية الجامعة. واسند الترويج الإعلامي والثقافي للاذاعية المثقفة ناجية ثامر والتعليم لمحمود المسعدي. وما وصلت سنة 1964 حتى تم احتواء جميع النقابات والمنظمات المدنية تحت تصرف وسلطة الحزب الواحد. حزب بعقل سياسي يعقوبي مخاتل.
وبذلك ولدت الدولة الوطنية غير مكتملة الشروط متعرجة فاقدة لعديد الاضلاع مثل:
· اهمال اللغة العربية
· اهمال الحالة الدينية وتهميشها والسخرية من ادبياتها القرآنية كما لم يحصل في أي دولة عربية.
· العجز عن استحداث شبكة اقتصادية موحدة تشكل قاعدة مادية للاقتصاد الوطني ومفاعيله الإنتاجية والتوزيعية.
· تجريد الفلاحين من اخر مدخراتهم الزراعية والرعوية بدلا من انجاز الثورة الزراعية واستصلاح الأراضي.
· العجز عن رسم استراتيجية في زراعة الحبوب بالاراضي المهملة والتزيع العلمي للمياه والسدود.
· الافتقار الى رؤية استراتيجية في ثورة التصنيع التي تشكل الركن المكين للدولة الوطنية.
· إضافة الى الافتقار الى التصور الوطني للثورة الثقافية والثورة العلمية..
وهكذا تحولت الدولة الموعودة الى دولة وطنية مغدورة وحلم موؤود وغابت عنها سوسيولوجيا الروح الوطنية الجامعة والتكوين النفسي الاجتماعي المشترك بتعبيراته الثقافة المشتركة. وحصل الفراغ المريع.. فراغ لم تملأه تيارات وجودية مقلدة ومستنسخة في غير بيئتها قرفت من عبثية الحياة وافتقادها للمعنى وفرضت لا ادريتها على مقررات النظام التعليمي.
وفراغ لم تملأه السلفية الماركسية التي انطلقت في اول عهدها مكافحة وطموحة، ولكنها انتهت في قسم منها الى سند شرعي ووحيد للدولة البوليسية.
وتعاظمت الحاجة الاجتماعية الى الانطولوجيا الدينية التي رغبت منذ بداياتها الجنينية ان تبتعد عن النمطيات الدينية التقليدية السائدة. ولم تكن تعي ان طبيعتها تختلف عن فتوحات مجاميع الخلاص التبشيري اذ تولدت من قاع المأزق التاريخي الذي أضاع بوصلة النهوض والإصلاح والتنوير وبدأ صداه متصاعدا من باطن العلاقات البنيوية والهيكلية للحراك الاجتماعي.
لكن الصدام كن محتوما بين الدولة المتعرجة الوليدة وبين جذورها الوطنية التحريرية التي شكل الإسلام السياسي أحد تمثلاتها الرئيسية قبل ان تلتحق به أحزاب ومنظمات المطلب الديمقراطي الاجتماعي الوطني والحقوقي.
الانقسام والتشظي
لم تكن تمثلاث الإسلام السياسي للحركة الوطنية التحريرية الموحدة والمفتوحة على المكونين العربي والمغاربي ضربا من الصلف او التعالم. بل كانت تمثل الموجة الثالثة لحركة الاستقلال كما يقول الباحث الفرنسي "فرانسوا بورغا "اذا اعتبرنا بان الاستقلال الوطني السياسي والاستقلال الوطني الاقتصادي موجتان سابقتان منكسرتان مما استوجب ولادة حركة لوعي الذات للذات وبالذات وخلق الإرادة الحرة المقررة وحدها للمصير الوطني للدولة وتطلعات أبناء شعبها وشبابها لتطورها ونهوضها.
ان وعي المكون الاجتماعي والتاريخي للحركة الوطنية التحريرية واعتباره حلقة مفصلية في بنيان الاضلع الرئيسية للدولة الوطنية يعني استدعاء راس المال الرمزي للدولة الوطنية.. ولا توجد دولة وطنية على وجه الأرض استطاعت ان تحقق نهوضها وتطورها وهي منقسمة ومتشظية بين راس مالها الوطني المادي والانتاجي وبين راس مالها الوطني الرمزي. وسقط كل فقهاء الانوطولوجيا والتبرير المزين لفك الارتباط التاريخي بين راس المال المادي والانتاجي وراس المال الوطني الرمزي في ظلمات الفشل والديكتاتورية والضياع.
انها معضلة الصراع العبثي بين جنين الدولة الوطنية التونسية والعربية وبين عمقها الرمزي.
وتلك ظواهر الازمة البنيوية للدولة الوطنية في تونس وفشل الطبقة الليبرالية الطرفية والبرجوازية الوطنية التابعة في بناء سياقها الإنتاجي المستقل وسوقها الداخلي والخارجي وقاعدتها الاقتصادية الوطنية المستوجبة لنهوض الدولة الوطنية.
بين سجن المرناقية وخبز الفقراء
كثيرون هم الذين يتوهمون بان سجن قادة الحركة الوطنية الإسلامية الديمقراطية حلقة ثانوية وضعيفة Maillon faible في بنيان الدولة السيادية. وكأن سجن الزعماء الإسلاميين الديمقراطيين الوطنيين ليس له صلة بحركة الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري والمنجمي المتهالكة والمدمرة للخبز اليومي للمواطنين فالصلة وثيقة ومفصلية وعضوية، طالما تكرست التقاليد البالية والمقيتة في الفصل ليس بين الدين والدولة وبين الزمني والروحي لا ابدا فتلك قضية أخرى لها مجالها وانما الفصل بين راس المال الإنتاجي والمادي وبين راس المال الرمزي. وهو فصل أحبط ويحبط كل التطلعات ويعدم الثقة بالذات الوطنية فيصبح الإنتاج غير ذي معنى وجذور العمق الوطني للروح الموحدة والجامعة لأبناء الوطن الواحد مفقودة فتتحول الدولة المتعرجة الى الانشطار والتشظي وتتحلل في نشأة العصبيات والاقطاعيات الشوفينية والفاشية المتقاطعة، والرهبانية الطبقية والاستبدادية الخادمة لسيطرة اللاهوت السياسي والعولمة الصهيونية ضدا للديمقراطية والإسلام السياسي.