search

انقلاب يقودنا لوضع أفضل .. رغما عنه

اليوم سيجري الانقلاب محاكمة سرية لمن وصفهم بأنهم متآمرين، وكيَف قضيتهم على فصول في القانون تصل العقوبة فيها إلى الإعدام.

قضية شهد كل المحامين والحقوقيين والسياسين بأن ملفها فارغ، ولا يحتوي على أي وقائع، يمكن تكييفها قانونيا بأنها وقائع تصدق عليها الإحالة على البنود القانونية الجزائية المذكورة في قرار ختم البحث. لا بل إنها تجري في إطار قضاء تحول إلى وظيفة. وكان أثر ذلك على القضاة الذين تولوا الملف تباعا، حيث كان جميعهم منذ انطلاق القضية إلى حد الآن، متهمون، وبعضهم رهن السجن، وبعضهم فار خارج الوطن، وبعضهم محاكم بقضايا مخلة بالشرف. وكذلك الشهود السريين الذين هم وحدهم من بنيت القضية على أقوالهم.

النتيجة الواضحة أن الانقلاب قد وقع في شر أعماله، وأن هذه القضية إلى جانب قضايا التآمر الأخرى التي ادعاها، ستكون مقبرة الانقلاب في وقت ليس ببعيد.

الأمر المهم الذي جاءت به هاته القضايا، هو أنها فرضت على قوى المعارضة أن تأتلف رغما عنها، وأن تحشر في زاوية واحدة. حتى أولائك الذي ذهب بهم الطيش إلى توقع أن النظام سيريحهم من منافس قدروا أنه هو الخطر الجاثم على البلاد، وأن انخراطهم مع الانقلاب سيجعلهم يتمكنون من إدارة البلاد في مناخ "ديمقراطي" بدونه، حتى أولائك، أجبرهم الانقلاب على الاصطفاف مع معارضيه، بعد أن يئسوا من إمكانية الوصول إلى ما قدروه. لم يستوعبوا درس الانقلاب الاول مع بن علي، فأعادوا الخطأ والخطيئة مع الانقلاب الثاني، وقد كانت سقطتهم أشد وأنكى.

نحن الآن أمام وضعية مستجدة في التاريخ السياسي التونسي. وهي وضعية متقدمة في التجربة التونسية، حيث لأول مرة يخوض النظام حرب الكل ضد الكل، ويحشر الجميع إلا من رهن نفسه للدور الوظيفي لصالح الانقلاب. اليوم الكل متهم، والكل محال على قضاء التعليمات.

أول مرة لا تخوض النهضة المواجهة مع النظام لوحدها. وبقطع النظر عن أحجام المتضررين في المكونات السياسية، فإن ما هو بين وظاهر أن الجميع ممثلين، وقضية التآمر التي ستعرض اليوم على قضاء التعليمات خير دليل على ذلك. أكثر من خمسين متهما موزعين على أطياف المجتمع جميعها. وهذا يكشف من زاوية "تطورا" مهما في التحولات السياسية العميقة في تونس.

سجون الانقلاب اليوم ممتلئة بمعارضي الانقلاب من الاحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والمجتمع المدني والقضاء والاعلام وغيرهم.

وهو وضع سيترك ظلاله على مستقبل الحياة السياسية، سواء في مواجهة الانقلاب أو في ما بعد سقوطه. مهما كانت الأحقاد الايديولوجية التي فرقت الساحة السياسية في عشرية الحرية، فإن منسوبها - الذي لا نتوهم أنه سيختفي - سيتقلص عما كان عليه.

لقد عرى الانقلاب كل الدعاوى التي كانت تقال زورا وبهتانا على قوى الثورة التي شاركت في الحكم.

لم تدافع النهضة عن نفسها بقدر ما "دافع عنها" الانقلاب بسلوكه الأرعن. لم تبيض صفحة النهضة بجهودها وجهود أبنائها بالقدر الذي بيضها الانقلاب، بخواء اتهاماته، ولجوئه إلى استعمال القضاء بشكل قذر. لم يستطع الانقلاب إلا أن يجعل المراقب يقدر أن النهضة قد ارتكبت أخطاء في التدبير والتسيير، ولكنه في المقابل جعل الناس يتأكدون أنها لم ترتكب خطايا وجرائر في حق البلد، لا هي ولا من شاركوها أو شاركتهم الحكم من قوى الثورة.

اجتهدوا في مناخ مشحون بالتضليل والخداع والتآمر بالليل والنهار فأصابوا وأخطأوا ... أصابوا في جعل العشرية عشرية حرية يتحسر على فقدانها الجميع الآن، وتعثروا في استكمال نصف الثورة الثاني وهو الكرامة. وأقول أنهم تعثروا لأنهم حاولوا فعلا العمل على ذلك، وقدموا نتائج إيجابية في بعض المجالات، سعت الثورة المضادة إلى طمسها بكل ما أوتيت من وسائل الغمط والتشويه.

لذلك أقول -كما أذكِر دائما - إذا وقع قضاء الله، فعليك أن تبحث عن حكمته - سبحانه - فيه، لأن الله لا يحب لعباده إلا الخير. فما وقع للثورة ولتونس فيه خير كثير إن شاء الله.

وكما علمتنا التجارب أن الشعوب تخطئ كما يخطئ الأفراد، وتغتر كما يغتر الأفراد، وتخدع كما يخدع الأفراد. ذلك أن الدروس التي تأخذها من أجل التجاوز والاصلاح، لا تأخذها من خلال التحليل العقلاني "البارد" رغم أهمية ذلك، وإنما تأخذها وتنفعل بها من خلال التجارب المرة والحوادث القاسية التي توشك أن تهوي بالشعوب في هلاك محقق، تماما كما يحصل للافراد.

الدروس الكبرى لا يأتي بها العقل "الجاف"، وإنما تأتي بها التجارب المريرة، التي تحفر في النفوس عميقا، وتتمكن من تغيير عادات مستحكمة في النفوس أي في "مركب" العقل والقلب معا.

ولذلك أقول أيضا، كفى تشنيعا على الشعب، وكفى تشنيعا على النخب. ولا يعني ذلك أن نتخلى عن فعل النقد الضروري للتغيير، ولكن النقد المطلوب هو الذي يبني ولا يهدم، ويبعث الأمل ولا يحمل على اليأس، يخلخل المسلمات ويستفز القناعات، ولكنه يفتح آفاق التغيير، ويعزز عناصر القوة والمنعة التي لا يخلو منها شعب من الشعوب.

كل دارس لتاريخ الشعوب و كل من يملك معرفة ولو محدودة في علم الانتروبولوجيا، يدرك أن "طبائع الشعوب وأخلاقها ونفسياتها" التي تكونت عبر تاريخها المديد، لا يمكن الانقلاب عليها بـ السياسة، وإنما يمكن إحداث تغيير فيها عبر الثقافة وفي مسار تاريخي معقد، وبوتيرة لا تكاد تلاحظ من خلال الوقائع المباشرة وردات الفعل الظاهرة تجاه الحوادث والنوازل.

ابشروا فإن أيام الانقلاب معدودة، وظني أن ما بقي من عمره، سيكون أقصر بكثير مما فات منه بلا شك .

تاريخ أول نشر 2025/3/4