من بوليفيا وصلتنا في تونس كما وصلت العالم أجمع رسالة مزدوجة.
فهي موجهة للجيش من جهة (وللقوات المسلحة جميعها بتعريف المنقلب)، كما هي موجهة للشعب التونسي.
تقول الرسالة أن الانقلاب الذاتي الذي أقدم عليه قيس سعيد بمساعدة مباشرة من القوى الصلبة وعلى رأسها الجيش والحرس الرئاسي وقوات الأمن ما كان له أن يتم لولا مساندتهم له في استجابة لأوامر غير دستورية وغير قانونية.
عجبت من تبرير العميد عياض بن عاشور لخضوع القوى الصلبة لأوامر الرئيس، بدعوى أنها صادرة من قائدهم وأنهم لا يملكون إلا تنفيذها. قد أتفهم خضوعهم باعتبار التقاليد التي ربوا عليها منذ انبعاثهم من حيث أنهم كانوا دائما طوع يد الرئيس لتنفيذ أوامره، ولو كانت قمعا للشعب، والمشاركة في ارتكاب مجازر في حقه، كما حصل في أحداث جانفي 78 وجانفي 84 وفي الثورة منذ 17 ديسمبر.
لكن الثورة التي حررتهم وحررت الشعب التونسي، والدستور الذي أبرز دورهم وأعطاهم حقوقهم، ألزمهم بحمايته والخضوع له وللقوانين الصادرة عن البرلمان المنتخب انتخابا حرا ونزيها وشفافا، وأن أوامر السلطة التنفيذية بما فيها أوامر قائدهم الأعلى تنفذ ما لم تخترق الدستور والقانون. وهذا هو معنى دولة الدستور والقانون والمؤسسات.
لو وقفت القوى الصلبة عند حدود صلاحيتها الدستورية لما تجرأ المنقلب ومن وراءه في الداخل والخارج على تنفيذ انقلابه.
لكنه للأسف استثمر تقاليد سار عليها أسلافه، وخضعت لها القوى الصلبة. وقد وجدت لدى بعض قيادات القوى الصلبة هوى في نفسها، للولوغ في مستنقع الانقلاب، تنفيذا لمطامع ورغبات شخصية، وتحقيقا لغايات إيديولوجية استثمرت تغلغلها في مؤسسات الدولة لتحقيق برامجها التي يغلب عليها البعد السلبي على الإيجابي، من حيث أن جهدها كان منصبا على مواجهة من تعتبرهم خصومها الإيديولوجيين أكثر من تحقيق مصالح للدولة والشعب.
وهي الآن موضوعيا وربما بتخطيط وسابقية إضمار تتجه في خطة التسرب للدولة، من أجل إحكام سيطرتها عليها لتحويلها إلى ريع توزعه على جنرالاتها كما يحصل في مصر والجزائر.
رسالة بوليفيا للجيش: عليكم أن تلتزموا بمهمتكم الأساسية وهي حماية الحدود والدستور ولا شيئ غير ذلك.
أما رسالة بوليفيا للشعب فهي لا تقل أهمية.
تقول الرسالة على لسان الشعب البوليفي: الديمقراطية خط أحمر، والصندوق الحر الشفاف خط أحمر، ومشاكل الديمقراطية لا تحل إلا بالديمقراطية، والجيش معزز ومكرم ما لم يعتد على الدستور والقانون، وما لم ينفذ الأوامر غير الدستورية، وما لم ينخرط في الأجندة الداخلية أو الخارجية التي تستهدف الديمقراطية والدستور والقانون.
كان هناك ألف حل وحل لتجاوز تعثر الانتقال الديمقراطي، ولكن العقلية الانقلابية التي مارسها قيس سعيد وأعانته عليها القوى الصلبة هي أسوء طريق سيذهب بالبلاد إلى هاوية سحيقة ... فإذا حادت المؤسسات الصلبة عن مهمتها الأصلية فقد أودت بالبلاد إلى مهاوي الفساد والإفساد والاستبداد، ولن تكون العودة لطريق الحرية إلا بمعاناة مريرة، ولا سبيل بالخروج منها إلا ثورة تعبدها الدماء والأشلاء ... ليس هذا تحريضا ... ولكن هذا هو التاريخ ... لمن ألقى السمع وهو شهيد.
سيصبر الشعب على البلاء بطاقة احتمال قد تخدع الكثيرين بأنه مات ولا أمل في عودة الحياة له ... وعند استحكام حالة اليأس ينتفض كطائر الفينيق من تحت الرماد ...
كان أحمد توفيق المدني الأمين العام لحزب الدستور (حزب الثعالبي) قد ذكر ذلك في مذكراته عند حديثه عن الشعب التونسي، قال إنه شعب يشعرك وكأنه قد مات وخمدت روح العزة فيه لكنه يفاجؤك بثورته دفاعا عن حريته وكرامته.
هذا الشعب الذي يبدو الآن خانعا مستسلما هو في الحقيقة يختزن طاقة الغضب في عقله وقلبه، ويستوعب الرسائل التي تأتيه من هنا وهناك ... من تركيا ومن إفريقيا ومن بوليفيا ... وسيصبر على عقوق بعض أبنائه علهم يثوبوا إلى رشدهم ... لكنه لن يستسلم، وسينتفض في ساعة يستسلم فيها الجميع إلى أوهامهم: "الانقلاب" وقواه الذين يخيل إليهم أنهم وضعوا الشعب في "جيوبهم"، و"معارضي الانقلاب" الذين يخيل إليهم أن الشعب قد مات ولا أمل في عودة الحياة له فيستسلموا هم أيضا للموت أو يلتحقوا بطابور المتسلقين على السلم المهترئ للإنقلاب.
تاريخ أول نشر 2024/6/27