{نص قديم يعود لسنة 1996 أنشره في نفس الإطار من أجل حوار أعمق بمناسبة استقالة عبد الحميد الجلاصي ... للنص حيثياته ولحظته التاريخية ولكن مضمونه العام يندرج في نفس السياق ويعطي فكرة عن الإطار التاريخي لإشكالية العلاقة بين الأمير/الرئيس/ الزعيم والنخبة القيادية لحركة النهضة حاليا (الجماعة الاسلامية وحركة الاتجاه الاسلامي سابقا)}
لقد تتبعت اجتهادات الشيخ النظرية وكتاباته الغزيرة وحركيته الفوَارة منذ ما لايقل عن 10 سنوات. وهي كلها لاتسعفنا بما نغالط به أنفسنا من جعل الشيخ مجرد منفذ لقرارات الحركة وخططها.
والحقيقة لا الشيخ و لا غيره من قيادة الحركة يرضى بهذا الوضع "السلبي" له، ولكن ما الحيلة وقد عجز بكل ما أوتي من قوة نظرية ونفسية وعملية أن "يحمل" النخبة على قناعاته؟ (أقصد في أسلوب الإدارة والمشكل السياسي والبناء الإستراتيجي).
لقد استعمل الشيخ المفاهيم التنظيمية التقليدية، وحاجج بالتجارب، واستدعى المفاهيم المعاصرة، وقدَمها بطريقة تفرض مكانا كما يراه مناسبا لرأس الحركة. وطالب بتجديد البيعة أكثر من مرَة، وحصل له ذلك في المؤتمر الأخير. ومع ذلك فقد بقي الإشكال قائما في عدم قناعة النخبة بالقيادة الفردية، حتى في أكثر الملفات حساسية. وبعدم الإرتياح لأسلوب "مؤسسات" الشورى غير الملزمة، وغير المراقبة من قبل المؤسسة الشورية . وفي موضوع الحل السياسي، لم تُحض قناعات الشيخ ومنهجه بالأغلبية في أي مناسبة طرح للموضوع.
المشكلة الكبرى هو أنَ الشيخ كقيادة وككاريزما للحركة، لئن حافظت على سمتها العام، إلاَ أنها فقدت فاعليتها في المجال الإداري التنظيمي وفي المجال السياسي لدى نخبة الحركة. لم تعد نخبة الحركة، وقد اتسعت دائرتها - سواء منهم من يعمل داخل المؤسسات أو من يوجد خارجها - تلك التي يمكن أن تندفع بسهولة وراء مطالب الشيخ وأسلوبه وبرامجه. والمشكلة الكبرى الأخرى، هو أن الشيخ لم يقتنع بهذه النخبة كفاعل رئيسي أو على الأقل كشريك.
إن هذا الإشكال لم يقع الإنتباه إليه عند صياغة القانون الإنتقالي، الذي حاول أن يدفع دفعا أسلوب إدارة الحركة نحو العمل المؤسسي الشوري اللامركزي. ذلك أنه تعامل مع المشكل من الناحية النظرية، متوهما أنَ قيادة الحركة متساوية الحظوظ والمواقع، وأن الأمر يقتضي فقط مسطرة جديدة تحوز الأغلبية عند التصويت عليها أو حتَى أكثر من الثلثين . ورغم ذلك فلا أتصوَر أن النخبة، وهي تدعو إلى هذه المعاني قبل صياغة القانون الإنتقالي، ولا حتى عند إجازته فيما بعد، كانت في غفلة عن هذه المشكلة، ولكنهم كانوا ينتظرون أن يبادلهم الشيخ بتفهم ما أصبح وعيا جمعيا للنخبة القيادية بل والقاعدة.
هذا الوعي الذي لعب فيه الشيخ دورا بارزا نظريا وعمليا، من خلال تبنيه لهذه المفاهيم، وحملاته المشهورة النقدية على أساليب الحركات والأحزاب، وتباهيه بإنجازات الحركة في هذا المجال، بأسلوب تعميمي تعبوي يفتقد التصوير الدَقيق لواقع الحركة، ولكنه أصبح حجة عليه وعليها.
لنكن صُرحاء ونقول: إن الشيخ لم يتفهم نزوع النخبة ومطالباتها بل ومشاكساتها، مما أثر على الأداء القيادي جملة، كما أورث "برودا" لعدد من النخبة، آثر البعض إمعانا في الهروب إلى الأمام، تفسيره بالتركيز على أسباب أخرى، قد تكون موجودة ولكنها ليست وحدها. كما تم استدعاء مفاهيم تنظيمية تقليدية تغري قائلها بتقديم الدليل ولكنها أبدا لن تقنع الآخرين.
إن وضع الشيخ ليس فريدا من نوعه، فهو يماثل عديد التجارب داخل حركات وأحزاب تتم القسمة فيها بالتراضي بين الزَعيم - المؤسس (والطبقة المؤسسة) والنخبة القيادية. حيث تُصِر النخبة على ضرورة مواصلة الزَعيم لدوره القيادي التوجيهي الإستراتيجي كمرشد وممثل لأصالة الحركة وجامع لتجاربها، كما يستجيب فيها الزَعيم (والطبقة المؤسسة) لضرورات الواقع، وتطور النخبة كمًا ونوعا، وضرورة مساهمتها المساهمة الفعَالة في إدارة الحركة.
ولكن الشيخ عموما وإن كان يقدِر دور النخبة في الرأي والتنفيذ، إلاَ أنه في الجوهر يعتبره دور إسناد ومساعدة.
وقد ظلَ الشيخ متبرِما من المكانة التي تسندها النخبة له، إذ تقابله "بطاعة مشروطة" إن لم تكن قولية فعملية من خلال عدم الإستجابة الفورية لأفكاره وتوجيهاته والإنقياد لها. ومن خلال إصرارها في فترات مختلفة على التعامل معه كقيادي يسري عليه ما يسري على غيره من الأحكام التنظيمية. وقد يكون في ذلك بعض الشطط، وخاصَة في فترات الإصرار على العمل بالإزدواجية القيادية، وقد يكون في ذلك بعض اللَوم على نخبة الحركة، بل وعلى الحركة في وعيها الجمعي، إذ أنها لا تحتفظ بتجربة إيجابية في التعامل مع قياداتها وخبراتها. ولك أن تسأل عن عدد الذين تداولوا على المؤسستين الأولتين في الحركة وعن مواقعهم الآن. ولكننا لا نستطيع أن نعفي الشيخ من المسؤولية في عدم تفهُمه هذا الإشكال، وعدم مبادرته بمساعدة الحركة ونخبتها في تطوير أسلوب إدارة الحركة ومن ضمنها موقعه هو. وبقدر ما عرف عنه نزعته التجديدية، إلاَ أنه في هذه النقطة بالذات بقي محافظا على القواعد التقليدية التنظيمية.
لقد كانت نظرة الشيخ لهذا الموضوع مرتبطة بحساسية مفرطة لتنافس معلوم بدأ في الحركة مبكرا (مع صالح كركر)، ولم ينظر إلى كبر حجم النخبة وتعاظم دورها واستقلاليتها كعامل جديد، برغم أن الواقع ومنذ سنة 1984 وخاصة بعد 1992 أثبت أنَ هنالك لاعبا جديدا في الساحة أكبر من الإستقطاب التقليدي القديم أثبت وجوده وتطوُر تأثيره مع الوقت.
تاريخ أول نشر 2020/3/7