search

بين اللحظة السودانية واللحظة التركية

يتحرك الانسان في الواقع مستبطنا الأمثلة التي تحدث أمامه أو قرأ عنها. ولأن الاستبطان تتدافعه مستبطنات أخرى، فإن الإنسان يصوغ مثاله بشكل معقد، ويختار زوايا نظره بشكل يحقق رغبته، فيخطئ ويصيب بحسب القدرة على النظر من الزوايا المطلوبة في اللحظة الممكنة. تلك العملية الدقيقة هي التي تعطيك حجم التغيير الممكن في الواقع. لذلك تتعثر خطوات وتقفز أخرى وينطلق جواد ويكبو آخر ... ويفاجؤك متواضع الذكاء ويخيب ظنك الشاطر ... ويصدق هذا على الأفراد كما يصدق على الجماعات ...

رغم أن اللحظة التركية ليست بالضرورة هي اللحظة المطلوبة إذا قرأناها بحساب الزمن الطويل والذي غالبا لا نستطيع إدراكه الآن ... إلا أنها تعد "لحظة نجاح" أمام حالة انسداد شبه تام للحزب الأم بقيادة أربكان ... كان أربكان ممنوعا من الاشتغال بالسياسة وكان الاستهداف في أشد خطواته .... لكن النخبة التي تحكم البلد لم تفلح في شيئ عدا مواجهة الحركة الاسلامية، وفي ما عدا ذلك كان الانهيار يصيب كل شيئ، ما ينذر بتفكك الدولة... وقد ظهرت بوادر ذلك في فقدان الانسجام داخل مؤسساتها العميقة والحيوية كالأجهزة الاستخبارية .... بلغ الفساد أعلى درجاته وصعدت الليرة التركية إلى أعلى دركاتها .... وتفككت النخبة السياسية وأحزابها وضاقت أوروبا وأمريكا ذرعا ... من هذه الثغرة نفذ أوردغان ولعب على كل تلك التناقضات وشكل مع كوكبة من القيادات حزبه الجديد مستفيدا من كل الخطوات التي قطعها حزبه القديم وزاد عليها بحيث قطع خطوة جريئة من حزب اسلامي تركي الى حزب محافظ تركي جمع فيه كوكبة من الطاقات من كل المشارب السياسية الفكرية وانطلق ببرنامج استلهمه من حاجة تركيا لاصلاح في نقطتين رئيسيتين: محاربة الفساد والانظمام للاتحاد الاوروبي.

في السودان ضاقت جزء من النخبة - خاصة تلك الماسكة بجهاز الدولة - بالزعيم وسطوته ونفوذه وخاصة تحركاته التي تزاحم تحركات جهاز الدولة وعلى رأسه رئيسه ... ضاقوا ذرعا بأفكاره الداعية للحرية والمطالبة بانفتاح أكبر وتداول عل السلطة .... استعملوا جهاز الدولة ترغيبا وترهيبا واستطاعوا استمالة الأغلبية وأغراهم ذلك بمزيد الضغط على زعيم عنيد فلم يتوانوا عن الزج به في السجن ناهيك عن تعذيب ومطاردة من بقوا أوفياء له بل فيهم من قتل .... حاولوا إلباس الزعيم كل نقيصة بل وكل جرم أتوه من قبل مع أن الحقيقة عند التدقيق غير ذلك ... تمادوا و عموا وصموا ... لكن الزعيم بقي حجر عثرة حتى وهو في السجن .... حتى وهو مراقب يحصون عليه أنفاسه .... لا بل إن من توقعوهم خصومه مثل جارنج وغيره تمسكوا به وانتصروا له بل واستجابوا له في مبادراته السياسية الكبرى ..... من الجهة المقابلة وجدت القوى الدولية الفرصة سانحة لمزيد الضغط على السودان ... واشتغلت مكائد الليل والنهار .... يفرضون عليهم في كل يوم جديد أن يأكلوا من سداهم و سيادتهم حتى بلغوا العظم .... حولوا السودان من بلد لم تتجاوز فيه نسبة الفساد 10 في المائة في بداية انقلابهم الى 90 بالمائة بعد انقسامهم .... وانتهى الامر إلى ما نعلم : السودان الآن في قبضة الصهيونية .... وهي نتيجة ما صنعت أيديهم هم لا أحد غيرهم .... هنا ناتي الى الدرس الكبير : ليس كل المداخل الصحيحة في ذاتها صحيحة في إطارها العام .... هنا يأتي " النظر الفسيح عند مضايق الأنظار" .... كان يمكن أن أقول ببساطة القاعدة التقليدية : إياك أن تفتح معارك داخلية في لحظة الاستهداف الخارجي .... لكنها اصبحت تقليدية وفقدت عنفوانها .... ليس كل ما هو صحيح ممكن إتيانه ... هنا نحتاج فقه الموزنات والأولويات ... فقه إدارة الصراع ... ظن السودانيون أنهم فقط يريدون التخلص من زعيم ضيق عليهم حرية الحركة وضيق على الدولة القيام بدورها .... وما دروا أنهم قد وقعوا في كماشة الدولة أو أنهم قد التهمهم "اللفياتون" وجعلهم يتخلصون من أحد أهم "أسلحتهم" لا بل إنهم جعلوا أسلحتهم ترتد عليهم فطعنوا من خلف و من أمام .... قوانين الصراع كما قوانين الوجود لا تحابي أحدا ولا تحفل بالنيات سيئة أم خيرة ولا بالمقاصد سيئة كانت ام خيرة ..... قوانينها معقدة .... إنها تركيبة كيمياوية لا تتكرر في أي واقعة ولكن تحكمها أسس عامة ..... أن تختاز الزاوية المطلوبة في اللحظة المطلوبة .... وقد يكون الخطأ دقيقا جدا .... و كثيرا ما يخطئ الشطار عندما تخونهم الأبصار ...

هل كان أردغان سينجح في مسعاه إذا كان أربكان حرا طليقا ؟ هل كان بورقيبة سينجح في انشقاقة لو كان الثعالبي في تونس ولم يغب كل تلك السنوات عن تونس ليعود متأخرا بعد أن "كل إيد شدت أختها" ؟

ليس غريبا أن تجد من يستهين بكل هذا ويغفل عن سنة التاريخ .... قد يسقط الزعماء أنفسهم بـ "غلطة الشاطر" ..... وإلا فلا يسقط الزعماء إلا بالخيانات أو بالغياب أو بالدماء ... وغالبا ما يكون ذلك على حساب الكيان كله وخاصة على حساب قيمه ومبادئه ومكتسباته.... وسنة الله جعلت الانسان العجول الجزوع الجهول قليل النظر للماضي والحاضر رغم توكيد القران المتكرر لذلك ....

من حقنا ان نطمح كتونسيين ومن حقنا أن نأمل في أن نأتي ما لم يأته الأوائل .... من حقنا أن نقدم نموذجا حضاريا في الانتقال من الزعامة للمؤسسة .... في زمن لم يعد فيه ممكنا إنتاج الزعامة ... ولا استساغتها .... بعد تجارب مرة مع زعماء أكلوا الأخضر واليابس وكانت تركاتهم أثقل على الامة من الشم الرواسي ....

الانسان عجول ولكن الجماعة تكبح الجماح ... ننتظر وعيا جماعيا راشدا .... يفكر في الواجب ويتحرى الطريق الأمثل ... يعرف أن الانتقالات الكبرى تحتاج بناءا في القلوب والعقول وتحتاج مرافقة هادئة وتحتاج تطمينا لمن بيده الامر أن الأمانات التي في يده لن تضيع .... نحتاج عقولا أكبر من تأثيرات الأحداث وأكبر من نوازع النفس .... نحتاج ذوي البصيرة النافذة لما وراء الحجب الطبيعية والاصطناعية .... نحتاج الهدوء .... نحتاج الحكمة ...

نريد أن ننجح و تنجح ثورتنا و ينجح بلدنا وتنجح أمتنا ... لا نريد تكرار الخيبات وما أكثرها .... وعلى الله قصد السبيل ...

تاريخ أول نشر 2020/11/1