search

تحديد القطعيات اجتهاد

يدور هذه الأيام جدل صاخب حول موضوع المساواة في الإرث، إلى جانب مسائل أخرى تتعلق بما يسمى " المساواة بين الجنسين " . وككل القضايا التي يعتبرها الناس من المسلمات، يكون الحوار متشنجا، لما يغلب على أطرافه من ريبة ، تجعل المطالب بالتغيير يمعن في الإحراج، و المتوجس منه يمعن في التشكيك . ويتحول الحوار إلى أزمة بسبب تحوله إلى مشكل في التواصل يخرجه عن مضمونه إلى التراشق بين المتحاورين لذواتهم . و يمكن ان نقول أن هذه حالة إنسانية انفعالية طبيعية في السلوك الإنساني، لأن عملية ترويض الإنسان لنفسه لاستقبال الجديد من الأفهام و السلوك أو التخلي عن القديم منها عملية معقدة جدا وقد تحتاج جيلا وربما أجيالا.

واقعنا والاجتهاد المقيد

يبدو المطالِبون بالتغيير في نازلة الحال من أولائك الذين يوصمون " بخفة الدين " و بعضهم حتى " بالمعاداة له " وهذا مما يجعل تناول القضايا يتسم بالحساسية والحذر والتشكيك في النوايا .وكل ذلك قد يعسر من عملية الحوار والتفكير والوصول إلى مخرجات عملية، ولكنه لا يلغي أصل الموضوع، وهو أن تلك القضايا المطروحة للحوار قضايا حقيقية وغير موهومة وتحتاج نظرا يتجاوز ما استقر في الأذهان والتقاليد العلمية والاجتماعية من "مسلمات". لا يختلف تشكل هذه القضايا في الاذهان عن تشكلها في الواقع حيث تبدأ هامشية ثم تصبح ظاهرة ثم تتمأسس بنية داخل البنية العامة للمجتمع . وخلال كل تلك المسيرة تأخذ شيئا فشيئا شرعيتها ومشروعيتها في الوعي ومنظوماته ثم في الواقع و مؤسساته.

والتاريخ حافل يما يند عن الحصر من القضايا التي بدأت منبوذة مستهجنة واستقرت مشروعة وشرعية .

ولا يخرج عن هذا الإطار تاريخ الاجتهاد الاسلامي الذي بقدر ما شهد فترات خمول وركود بقدر ما شهد فترات حيوية وإبداع . و بقدر ما كان في فترات الركود حذرا مستريبا بقدر ما كان في سنوات الابداع مقداما جسورا .

الصحابة والاجتهاد المنفتح

وغير خاف على المطلعين أن اجتهاد الصحابة والتابعين كان متميزا بالحيوية والابداع ما جعلهم يؤسسون "ملحمة تعميرية عظمى" أمام ما انفتح عليهم من الوقائع الهائلة مع تيار الفتح العظيم الذي كان كالسيل الهادر أمما وثقافات.

يحفظ الناس "اجتهادات عمر" التي كانت نبراسا لمن بعده والتي تنم عن فهم عميق للنص ولعلاقته بالواقع فهما وتنزيلا . ولكن " الحفظة " انشغلوا فقط بما يزيل "الشبهات" عن اجتهادات عمر ونسوا أن المطلوب هو النسج على منواله، كما سار من بعده وأرسى دعائم حضارة عظيمة ما كان لهم أن يؤسسوها لو انشغلوا كما ننشغل نحن بإزالة "الشبهات" عن اجتهادات عمر .

رحابة النص وضمور العقل القارئ

ليس لدينا آية أو حديث يتحدث عن أن لدينا شيئ إسمه "القطعيات" فضلا عن تعدادها . ولا يعني ذلك أنه لا توجد قطعيات، ولكن علينا أن لا نغفل أنه لو كان أمر تحديدها ضروري وأبدي لذكرها الله في محكم تنزيله أو لذكرها رسول الله صلى الله عليه و سلم. والقطعيات التي نتحدث عنها والتي يدور الجدل حولها هي أفهام وتأويلات .

اشتهر بين الأصوليين وغيرهم أنه " لا اجتهاد مع النص " ولكن من بين الأصوليين أنفسهم قديمهم و حديثهم من يعتبر أن هذا غير دقيق، فهناك دائما اجتهاد في الفهم واجتهاد في التنزيل . وإذا كان الأصوليون يعنون بالنص ما كان قطعي الورود قطعي الدلالة ، فقد تبين أن آيات القرآن وهي قطعية الورود لا يكاد يوجد فيها نص قطعي الدلالة بمعنى محصور الدلالة في وجه واحد دون سواه .

و عندما نقول أن تحديد القطعيات اجتهاد فنعني بذلك الاجتهاد المعتبر الذي ينطلق من داخل الفضاء المعرفي الاسلامي والذي تتلقاه الأمة بالقبول .