يا سي عبد اللطيف "يكون منك العقل"...
الذهاب للموقف الأقصى لن يحل المشكلة، وتصور من يختلف معك في الفكرة أنه "نية" أو "غبي" لا يعين على الحوار ...
لم "يسل لعابنا"، ولا تجاهلنا "الأدوار القذرة" التي قام بها البعض، ولا نجهل "النية المقعمزة" للبعض الآخر، ولا تنسينا "توبة الغرغرة" ما أقدم عليه صاحبها قبل ذلك ...
كل ذلك نعرفه ونعيه ونتحسب له ...
ولكن التعميم أيضا ليس قولا منصفا ... والتعامل مع "خصومنا" جميعا باعتبارهم "طبع الله عليهم " ليس منصفا ... وتجاهل مناخ الخوف بل الذعر المتبادل، الذي ولد كثيرا من السلوكات المتشنجة او المتحاملة أو المتآمرة، لن يساعد على اجتراح الحلول في بلد نحن فيه في مركب واحد ولا يملك أحد طرد الآخر من جنته ....
إذا "أدنت" الإسلاميين في بعض ما أكتب فإنما أدين نفسي باعتباري واحدا منهم ... لكنني لا أعتبر النقد الذاتي إدانة ... ولست ممن هو مسكون ب"ـخطيئة أبوموسى الأشعري" المزعومة أمام "شطارة عمرو ابن العاص" المزعومة ....
النقد الذاتي شجاعة ومنجاة، والتنازل بحثا عن المصلحة العليا قوة وثقة في النفس، ومساعدة من أسرف في حق البلد، وأعرب عن مراجعة ما قام به سياسة وكياسة، ومن المساعدة أن لا نشترط عليه أن يأتي زاحفا على ركبتيه ...
وأزيد كما كتبت سابقا، حتى أولائك الذين بدا لهم أن يغيروا موقفهم لا عن قناعة، ولكن لخيبة أمل في الانقلاب، أو لشعور بقرب زواله ... بل كتبت أكثر من ذلك ... حتى أولائك الذين غيروا مواقفهم في إطار مهمة اختراق جبهة رفض الانقلاب ... كل أولائك يجب أن تكون لدي القدرة على استقبالهم وضمهم إلى قوى مقاومة الانقلاب ...
لماذا ؟
السبب واضح وبسيط في نظري:
لأنه ليس أمامنا خيار إلا تكوين جبهة عريضة، لا تقتصر على النهضة وأخواتها أو إخوانها ... وهذا بكل المعاني، ولكل الأسباب ... وكل تفكير خارج البحث عن مشترك عريض وفاعل، قائم على رفض الانقلاب ونبذ الإقصاء، وعلى قاعدة الثورة والديمقراطية ودولة القانون ... كل تفكير خارج ذلك، إنما هو وهم لا يرجى من ورائه في الواقع إلا استمرار الانقلاب أو تعويضه بما هو أشد منه ...
البحث عن المشترك واستفراغ الجهد في تحصيله ضرورة ضرورة ضرورة وليست ترفا. ضرورة مبدئية وضرورة واقعية ...
يا سي عبد اللطيف علينا أن نكف جميعا عن اعتبار المختلفين إما "بهاليل" أو " ممن طبع الله على قلوبهم" ... أكاد أقول أنه لا يوجد تونسي "بهلول" يا سي عبد اللطيف وخاصة أهل السياسة ... كما كتبت مرة : الزقط" - بلهجتنا العامية المخففة بلهجة جهتي ولا أدري هل لها نفس المعنى عندكم - هو أعدل الأشياء قسمة بين التونسيين ...
لا فائدة ولا معنى لأن يتذاكى بعضنا على بعض ... وأولى بنا أن يتفهم بعضنا بعضا ... لاأقصدك أنت بالذات ... وإنما أقصد الجميع ... أنا وأنت ونحن وهم ... كلنا تونسيون و"أولاد تسعة أشهر" كما نقول ... فينا كلنا ما في التونسيين من قيم الصلاح والفلاح وفينا غير ذلك ... فينا من طبائع التونسيين المميزة التي يشهد لها الغريب، وفينا من طبائع السوء ما نعرفه نحن ولا نحتاج فيه لشهادة الغريب ...
كتبت مقالا عنونته "لسنا وحدنا " ... نعم لسنا وحدنا ... ولا يجب أن نفكر يوما أننا وحدنا المبعوثون من طرف العناية الإلاهية، ولا المالكون للحقيقة، ولا الأطهار الأخيار وغيرنا لا يرجى منه خير ...
كل الذين شنعوا على النهضة وراشد الغنوشي بالذات، حول سعيه للتوافق، وصبره على تحقيق ولو أقدار ضئيلة منه، في تقديري كانوا مخطئين. ومن يتصور ان ذلك السعي هو الذي أردانا في ما نحن فيه فقد جانب الصواب. وهذا لا يعني أن لا تكون ارتكبت أخطاء في تنفيذه، وإن كان ليس منها ما يراه البعض من اشتراط توافق علني واضح الحقوق والواجبات وموقع عليه وعليه شهود، فهذا لا يقوله إلا من لم يقدر تعقيد الواقع، أما الغنوشي فقد ذهب للتوافق ودعا له وروج له، في إطار مسار يسعى إلى الارتقاء به إلى صفة التوافق الحقيقي، أي عقد شراكة متعادل الحقوق والواجبات، والغنوشي كان يقوم بذلك لأنه لا خيار لنا غير ذلك، ولو تابعنا ردود الأفعال على سعي الغنوشي لذلك لأدركنا قيمته، فقد كان ذلك أحد أهم الأسباب التي جعلت الحملة على الغنوشي والسعي المحموم لعزله وضربه وتشويهه حتى وصل ذلك إلى دائرته ...
كل الذين شنعوا على راشد الغنوشي عندما ذهب إلى حركة الشعب، وجلس في مكتبها تحت صورة عبد الناصر، التي ربما تعمدوا وضعها في ذلك المكان، مخطئون في نظري. لأن الغنوشي والعريض لم يذهبوا استعطافا ولا استجداء، وإنما ذهبوا لإنقاذ مسار، ولإنقاذ ثورة، وقد رأينا عندما فشلت مساعيه أين وصل الوضع وانقلب الذين رفضوا الاستجابة لطلبه يشنعون عليه بحثه عن تحالف جديد تفرضة إدارة الدولة، ولن يحكم التاريخ إلا لهم، وستكتب زيارتهم في خانة الشجاعة والحصافة والكياسة وعمق السياسة ...
صديقي ... المعذرة على الإطالة، ومثلك لا يحتاج كل هذه السطور ...
بقي أن أقول لست ضد النقد المقدم في مجمله، بل أعتبر الوقوف على ثغرة التنبيه والاحتراز مهم ... وأعرف أن للغة أحكامها وحدودها وضروراتها ... وأرجو أن نساعد بعضنا بعضا عن المسك بالحقيقة ... التي هي أحيانا كالنملة السوداء على الحجرة الملساء في الليلة الظلماء ... كليالي الفتن التي نعيشها ... نسأل الله أن يخرجنا ويخرج بلدنا منها سالمين غانمين ...
تاريخ أول نشر 2025/5/6