search

حركة النهضة واستراتيجية التسمية

كنت أحبر هذا المقال /الدراسة حينما بلغني خبر تشديد الاصفاد على يدي رئيس برلمان الشعب المنتخب الشيخ راشد الغنوشي  واصدار احكام بالسجن على وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام .هي اصفاد سنمار التي تثقل اليدين التين اهدتا للوطن والشعب السلام والحرية. ونعتت من قبل المخافر السرية لأمن دولة المنظومة البائدة والعائدة بشتى النعوت الظلامية والتجريمية ايغالا في التخفي واملا في ان اهالة جبال التراب وكثبانها على الوقائع الحية ستتمكن يوما من حجب شمس الحقيقة. ولكنهم بصنيعهم هذا زادوا من رفعة الغنوشي في ميزان العدالة السياسية والتنوير والأخلاق. فالحقيقة أكثر شيء عشقا بين الناس. وسيخترق شعاعها جميع الأزمنة والحجب. لقد بات الغنوشي رفيقا لنلسون مانديلا ورفيقا لبابا الكنيسة الأحمر السلفادوري "اوسكار روميرو" والرئيس والزعيم الوطني واليساري الشيلي "سلفادور الاندي" الذي أطاح به كما أطاح بالغنوشي أعداء الديمقراطية والإرادة الحرة للناس وحقهم في الأرض والخبز لجميع أبناء الوطن.

وحضرتني في هذا الشهر من فبراير الجريح ذكرى اغتيال رفيقي وصديقي شكري بلعيد الذي وان اختلفت بيننا دروب النظر والعمل فقد جمعت بيننا لحظات لا تنسى من ساحات الحوار ومنابر الندوات. وتاكد لي ان الشهيد شكري لم يكن يرضي تطلعاته وصرامته الثورية ما الت اليه ثورة 14 جانفي المجيدة من تجفيف للمنابع الوطنية والتقدمية ومن انحدار الى غياهب الظلامية والعدمية والتيه. فالمجرمون القتلة الذين أطلقوا رصاص الغدر على الشهيد شكري بلعيد كانوا يرمون الى اغتال الثورة واحلامها وبرنامجها الوطني في قلب بلعيد وفي وجدان جميع الأجيال المتدفقة من الشباب الذين أيقظتهم صرخة محمد البوعزيزي. ومع التحقق التدريجي لغايات القتلة تحت مسميات براقة للثورة والتصحيح يتبين وجه من دبروا الاغتيال من وراء الحجب والاستر وتسقط اقنعتهم. وبعد تحول البلد الى طوابير انتظار امام الخبز والزيت والسكر والمواد الأساسية للمعاش خوفا من الندرة والجوع والتفقير وبعد تحول البلد الى طوابير القلوب المكلومة للنساء والارامل والأطفال والثكالى ينتظرون الرحمة لأبنائهم وعوائلهم امام سجون طمرتهم إخفاء للحقيقة. بعد هذا التحول لم يعد يوجد على وجه البسيطة من لم يدرك ان صرخة صادحة كصرخة محمد البوعزيزي وانتفاضة واضحة كانتفاضة الشهيد شكري بلعيد لن تحتاج الى مفسرين بكثير من الكلام الفصيح او الى معجم للتصحيح.

وتحايثنا في هذه اللحظات ذكرى الاسراء والمعراج التي توافق يوم 27 رجب من كل عام. وهي مناسبة للأحياء والتواصل المادي والروحي والوجداني مع وقائع واحداثيات الديناميك الاجتماعي والتاريخي لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة الرحمة للعالمين، وليست مناسبة للرقص على الحبال والاستخفاف بالرموز واعتقال الأبرياء كما حصل مع الغنوشي ليلة27 رمضان.

فالأسراء والمعراج فتح افقا رساليا في الزمان وفي الوجود اخرج النبي من ضيق فراق الاحبة زوجته ام المؤمنين خديجة وعمه ابي طالب ومن حصار شعب بني طالب وتجهم قومه من بني ثقيف في الطائف. فكان الاسراء ليلا الى المسجد الأقصى والسفر في الوجود وفي الزمان معراجا الى سرمديات الغيب في السماء.

حركة النهضة واستراتيجية التسمية

يطفو على سطح الجدل التنظيمي لحركة النهضة هذه الأيام موضوع تسمية الحركة، وإمكانية الاقدام على تغيير التسمية من حركة النهضة الى تسمية جديدة قد تكون أكثر تعبيرا عن طبيعة المرحلة السياسية القادمة، وقد يكون ما تعلق بالتسمية الحالية من تجربة قاسية هو احد أسباب التغيير حتى لا تنساق الحركة في إعادة انتاج قديمها بمختلف مراحله وتعرجاته زمن الطفولة والصبا والنضج.

وقد حان الوقت الذي يتطلب من حركة النهضة القيام بالنقد والنقد الذاتي وتقييم مسار الثورة منذ اندلاعها الى اليوم وصولا الى طبيعة المراجعات الضرورية لاستئناف الطريق نحو بناء المشروع الوطني.

وتسمية حزب سياسي عملية استراتيجية تختزل طبيعة المشروع الذي يبادر هذا الحزب الى تقديمه للناس. ومن ثم فان عملية التسمية لا تتعلق باللغة وحدها بالمعنى الإصطلاحي والشكلي للغة، "فاللغة ليست مجرّد أصوات على الألسنة، أو عبارات جارية تكتبها الأقلام، بل هي أداة لترسيخ واقع "مفاهيمي" فى الأذهان، يمتدّ بحكم طبائع التفكير والإدراك إلى السياسة فهمًا، وإلى القرارات تأثيرًا و ممارسة وفعلًا."

لقد كانت نشأة حركة الاتجاه الإسلامي استجابة طبيعية لحاجة اجتماعية اختمرت لدى شرائح عديدة من المجتمع التونسي بعد وصول مشروع دولة الاستقلال الى حدوده نهاية ستينات القرن الماضي، وبداية سياسات الخطأ والتجريب في عشرية السبعينات مع رئيس الوزراء الثاني الهادي نويرة. ورغم ما يضفيه الدارسون والمراقبون السياسيون والاقتصاديون على تلك المرحلة من اوصاف الليبرالية والاقتصاد الحر الا انها كانت ليبرالية طرفية هشة ملغمة بالتبعية والاقتصاد الريعي فاقدة للقاعدة الاقتصادية لراس المال الوطني. ورغم بعض المنجزات الحداثية والاجتماعية لدولة الاستقلال الا انها لم تكن نابعة من تصور ورؤية استراتيجية ناجزة تستكمل الشروط الذاتية والموضوعية لبناء الدولة الوطنية، بل بلغ المشروع الدستوراني البورقيبي الى نهاياته بالاغتيال المادي لرفاق الكفاح الوطني صالح بن يوسف ولزهر الشرايطي وتصفية الحركة الزيتونية واحتقار مخاضها التربوي والكفاحي والقطع معه واجهاضه. اضافة الى الاغتيال المعنوي لرموز الحركة الوطنية مثل الحبيب ثامر وفرحات حشاد وعلي البلهوان والفاضل بن عاشور ومحمد الطاهر بن عاشور واحمد بن صالح ومحمد مزالي..

حصل ذلك في اوج الحرب الباردة بين قطبي الاشتراكية السوفياتية واقتصاد السوق الرأسمالي العالمي الموسوم بالعالم الحر.

فيما كانت دول النظام العربي القومية الناشئة تعيش اخر فرص التجريب التقليدية بين اشتراكيات وبيسماركيات الهامش العربي /نسبة الى قومية مستنسخة من قومية  بسمارك وغاريبالدي التين انتهتا عربيا الى نوع من الرهان الستاليني على الدولة المركزية .

في المقابل أدت مشاريع ليبراليات الهامش القطري  والهامش الكولونيالي في الأخير الى الفشل في إدارة  الصراع العربي الصهيوني والفشل في خلق ثروة تدعم إستراتيجيات التنمية والنمو ولم تحقق توزيع خيرات النمو  على الشعب توزيعا عادلا.

وصاحب كل ذلك اعتماد الأجهزة الأيديولوجية والدعائية الإعلامية والثقافية للدولة اعتمادا جامحا على  وضعانية حدية ويعقوبية مسقطة  استهدفت  للعمق السيكولوجي والاجتماعي لشعوب الحركة التحررية  الوطنية.

أجهزة استخفت بالأدوار العضوية للعمق الإسلامي الرسالي لشعوب الدولة الوطنية. ولم يفلح التبشير بالكفاية والعدل والحرية والاشتراكية والوحدة ناصريا وبفرحة الحياة بورقيبيا في درء مخاطر المسار المحتوم . اذ كانت بشائر انكشف انها اقرب الى ميافيزيقا السياسة  وميتافيزيقا دول الأجهزة الصلبة الاكلوريسية الدينية.

عاش المجتمع التونسي والعربي هذه الاحداثيات الوطنية والعربية والإقليمية في حال من الحيرة والفراغ في بنية الكينونة والوجود وفي نمط العيش والمعيشة وبنية الدور الاجتماعي، انعكست اثارها في كم هائل من الإنتاج الادبي والفني .ولم تتمكن مجاميع التنظيمات اللينينية والماوية ووجودية الحكيم سارتر والاديب الكبير البير كامو وسفراء الكومنترن من تلبية ذلك النداء الروحي والتطلع المادي والمنزع الوجودي للشعب في مربع جغرافيته البيئية وفي تضاريس شظف معاشه الجهوي والحضري والزراعي وعمق قاعه الاجتماعي.

ولا يمكن ان نتجاهل هنا ملاحظات الدارسين السوسيولوجيين الذين سجلوا بان البيئة الاجتماعية كانت مهياة لنشوء تعبيرات اجتماعية جديدة تشكل ظاهرة تيار اجتماعي يمتح من عمقه الروحي..ويتواصل مع تاريخه وجغرافيته باندفاع أحيانا وبوعي جنيني تعوزه شروط النضح المعرفي. لكنه شق طريقه ولا تزال تتقاذفه أمواج المد والجزر نحو مظانه الديمقراطية الثورية والوطنية.

النشأة

نشأ التيار الاجتماعي للحركة الإسلامية ضمن جماعة دعوية دينية بمنزع سياسي وبعقل هو اقرب الى الوثوقية وامتلاك الحقيقة. لكن الجماعة لم تكن طرقية كما يذهب بعض الدارسين لكنها كانت بداية انتظام سياسي في بلد لازال رافضا للاختلاف والتعدد تحكمه ارتودكسية علمانية تعاملهم معاملة الخوارج على السلطان في القرون الغابرة.

التسمية الأولى

جاءت تسمية الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية والاتجاه الإسلامي في الحركة الشعبية، كتعبيرة عن وعي الذات للذات. اي وعي التونسيين لذاتهم المطمورة والكامنة رغم ما تمثله من اكتشاف لوسائل عميقة  للدفاع الذاتي ضد العولمية وبقايا الكولونيالية. وكانت التسمية مظللة أحيانا حيث توحي لبعض المتحزبين بمنزع الفتح لا الانفتاح و تهافت اسلمة المجتمع بتصور ميتاتارخي لا يولي قيمة للشروط الموضوعية والعلمية لتطور المجتمعات ومراكماتها المعرفية والتاريخية. واستقر الامر في الأخير على ان تسمية الاتجاه الإسلامي بما هي استراتيجية في تمثل الإسلام في فضائه الجغرافي ومجاله السوسيولوجي وإدارة موارده البشرية والثقافية والروحية وإعادة انتاجها ووضعنتها ضمن هوية وطنية وحداثية متجددة تجيب عن مطالب المرحلة الحضارية ومتطلبات الزمان والزمني الحاضر ومطالب العدالة والمعاش بعيدا عن استدعاء للمدونات الأصولية والفقهية القديمة. ورغم كونها حبرت لزمانها فانها لم تسلم من الارتباط بتمثلات ماضوية قروسطية ومنطق "انا وجدنا اباءنا على امة" وفرضها على الناس.

الشحنة الدلالية والبرنامجية للتسمية

وتسمية الأحزاب لا يمكن ان تكون ارادوية او عفوية وشكلية ، وانما هي استراتيجية سياسية في التسمية تختزل المشروع السياسي الديمقراطي والوطني الذي يراد به استنهاض الناس وديناميكياتهم الاجتماعية بناء على خطة تشغيلية لذلك المشروع وانطلاقا من  الأرضية المشتركة للشعب من اجل تحقيق التغيير نحو الغد الأفضل.

لذلك تروج الأحزاب لبرامجها من خلال اسمائها. كما تستهدف الأحزاب بعضها في اتون صراعاتها وتجاذباتها من خلال اسمائها. تحريفا واستهجانا وتحقيرا مثل استخدام تسمية اسلاموية في إحالة على التحريفية اوتسمية "الاخوانجية"وهي من أسماء الحرفة في المجتمع التركي مثل كفتاجي وقهواجي ويقصد بها الاستخفاف بالسياسيين على انهم ممتهنوا حرفة. وتعمد تسميتهم بغير أسمائهم انتهاك الحق في  التطلع المواطني الحر للإسلاميين نحو  اعتماد الاطروحة الإسلامية في المشروع السياسي الوطني..

ويوم الإعلان عن تأسيس الحركة في 6 جوان 1981 

تبنت الحركة عنوان الاتجاه الإسلامي اسما لتيارها الاجتماعي. ويمكن تلخيص الأهداف المعلنة النابعة من التسمية في :

استعادة الدور الحضاري لتونس وهويتها العربية والإسلامية وتحريرها من التبعية.

والعمل على تحقيق التطور في البعدين  الاقتصادي والاجتماعي على قاعدة الرجل وبلاؤه الرجل وحاجته، والانتصار للمستضعفين والطبقات المحرومة، والاهتمام بالثقافة والتربية والتعليم، والانتصار للقضية الوطنية الفلسطينية وقضايا التحرر في العالم، ودعم البعد العربي والمغاربي للشعب التونسي.

وفي مقاربة لمحاولة فهم ما تعنيه الإسلامية يمكن الإشارة الى هذه المسألة من وجهين: أولهما الإسلامية، كمجموع للتكوينات الدينية السياسية التي نطلق عليها اسم الإسلاميين وفي ذلك اختزال مخل بمعنى التسمية في الاصطلاح الحزبي المدني والوضعي.

 والوجه الثاني هو الإسلاموفوبيا، كنزعة امبريالية سائدة داخل المجتمعات والعصبيات العنصرية يقصد منها  الاستبعاد العنيف والتصفوي لكل ما هو اسلامي. وليست  أطراف هذه العملية الاختزالية في التسمية مكونة من طرفين  اثنين فحسب ، «الإسلام» و«الغرب» كما يعرف في الادبيات الحركية التقليدية ، بل هي اطراف أربعة  هي الإسلاميون ونُظُم الأقلية الاستبدادية  الحاكمة في بلدانهم والقوى الامبريالية والكيان الصهيوني ورغم ذلك فان مقاومة  ظاهرة الاسلاموفوبيا لا تعبر عن عمق الدلالة الاستراتيجية للتسمية .

وفي الواقع ان ما اثبته الدارسون للاسلاميات التطبيقية الجديدة والباحثون في الفلسفة السياسية والاجتماع السياسي يؤكد ان تقدير وزن هوية من الهويات الجماعية يفهم من خلال المجالين السوسيولوجي و الأيديولوجي في آن واحد؛ فهو يتغير حسب مدى هيكلة الجماعات وتموقعاتها في الديناميك الاجتماعي والتاريخي وما تختزنه من أيديولوجيا طموحة وحالمة محايثة للواقع تاثيرا وتاثرا.

والإسلامية بهذا المعنى ليست مذهبا دغمائيا للمجتمعات المغلقة على قول "بول ريكور" التي تؤكد اطروحته عن مفهوم المجتمع المغلق والمجتمع المفتوح. وانما تتمثل الإسلامية بهذا المعنى  في ما يختزنه المخيال الشعبي العام وتجاربه وخبراته التاريخية من رموز ومعارف عقلانية ووجدانية تشكل رأسماله الرمزي المحايث للواقع المتحرك وما به يتغير الواقع نحو الافضل.بهوية متحركة قابلة للتطور غير جامدة او خاوية.

 رأس المال الرمزي يشترك مع المخيال العام والتجارب والخبرات في انتاجه وإعادة انتاجه عبر مسيرته التحررية ووفق مراحله التطورية والتطويرية. ويتنزل كل ذلك ضمن ديناميكية اجتماعية تخصب الحوار الديمقراطي وتتواضع على شروط التعدد والاختلاف وتنظيم الاختلاف واحكام حسن ادرته باتجاه الوحدة الوطنية  الجامعة.

وهذا التمثل للاسلام هو تمثل جديد في العالم الحديث والمعاصر تقدمت به الحركات والمجتمعات بدرجات متفاوتة ومتعرجة ومنتكسة أحيانا ، وهو تمثل لا ينزع نحو القطع مع الحداثة باعتبار انها باتت جزءا من طبيعة تلك الحركات والمجتمعات وهويتها ، لكن المنجز النظري لتلك الحركات لا يخلو أيضا من المقاربة النقدية  لبعض تطرفات الحداثة وغلو التمثلات الاكليروسية والكلاسيكية والسلطانية للدين والتدين. وهو نقد مفتوح على ثقافة المابعديات (ما بعد الحداثة/ما بعد العلمانية/ ما بعد الأيديولوجيا...)ويمتح من الخبرات الرسالية والبشرية الإنسانية ، ومن ابستمولوجيا القران مخصبة بالمعارف العلمية. إضافة الى اعتماد جيوبوليتيك الحضارة الإسلامية  و ومخزونها من الثروة العلمية والبشرية وعلوم الوجود وعلوم الانسان/انطولوجيا الإسلام وانطروبولوجيا الإسلام.

ويمثل راس المال الرمزي الحاضنة الضرورية لراس المال المادي والانتاجي في الاقتصاد والإدارة والخدمات. وحاجة راس المال المادي لراس المال الرمزي حاجة حيوية وضرورية ذلك ان الفصل بينهما او تصادمهما لم يخلق الا الاستبداد والظلامية والإرهاب وضياع بوصلة النمو والتنمية واستراتيجيات المزاوجة بين خلق الثروة وعدالة توزيع عائداتها. وبقدر ما كانت الحركة خلال مرحلتها الأولى مهتمة ببعدها الاجتماعي وتعهد قاعدتها وحاضنتها الشعبية بقدر ما أحدثت المحاكمات الاستبدادية والمطاردات البوليسية طيلة عقود اعطابا من الانقطاعات والتمزقات في النسيج التنظيمي بلغت اضرارها عمق الوعي العضوي بالبعد الاجتماعي وتدحرج نحو الملامسة الوظيفية للطبقة الاجتماعية بل واختزالها أحيانا في العمل الخيري على أهميته /يد عليا/يد سفلى /لا يفتح افقا للسياسة ولا يصنع معنى وموضوعا يفرق بين الصراع الرئيسي والثانوي.


التسمية الثانية

في سنة 1989 غيرت حركة التجاه الإسلامي اسمها الى حركة النهضة في ظروف عاصفة واكراهية.

ولاقت هذه التسمية نوعا من الانسجام مع طبيعة المرحلة. فتونس التي كان يحكمها النظام الريعي النوفمبري للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عرفت تراجعا تنمويا وتعليميا واخلاقيا غطت عليه سياسة الواجهات الدعائية.وبعد سنتين من انقلاب 7 نوفمبر 1987 أمضاها بن علي في تثبيت مصالحه وأركان سلطته وضمان شروط الاستقرار لحكمه دخل مرحلة الحكم الصلبة عبر تركيز نظام بوليسي انطلق بحملة واسعة دامت عشريتين من التطهير العنصري /الماكارتي ضد الإسلاميين ورفاقهم من بعض رموز اليسار والحركة الديمقراطية. واستحقت المرحلة اسم النهضة لما عاشته البلاد من تقهقر في الحريات والحقوق المواطنية للإنسان وفي حرية الاعلام والتعبير والعمل السياسي والنقابي الديمقراطي. وكان الوضع الدولي يمر بمرحلة نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة بالقطبية العالمية الواحدة. وعلى المستوى العربي اتجهت القوى الدولية الى عقد اتفاقات وتفاهمات أدت الى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية عبر مسار أوسلو ،وشهد النظام العربي اخر سنوات انسجامه وتفجرت براكين النزاعات البينية العربية بين العراق والدول الخليجية بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية. وعرف المشروع النظري والبرنامجي للنهضة العربية توقفا وانسدادا بعد ان اشتغل عليه مركز دراسات الوحدة العربية  لسنوات عديدة وبذل جهودا مضنية في التدارس والندوات والاستخلاصات بين اهم النخب العربية. وضمر نشاط الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.وتنادى المفكرون والفاعلون السياسيون العرب مستنجدين ومحتجين على فشل مشروع الإصلاح والتنوير العربي .كل ذلك كان يشير الى راهنية مشروع حركة النهضة في تونس وتسميتها الاستراتيجية بحركة النهضة التي اختزلت الحاجة الاجتماعية والوطنية التونسية الى الاستنهاض والحاجة العربية والمغاربية للنهوض والاستئناف غير الكلاسيكي لمشاريع النهضة والإصلاح والتنوير التي أصابها نفس المازق الذي أصاب النظام العربي.  وفي خضم التنافس الأمريكي الأوروبي على السوق المغاربية ومجالها الحيوي عبر اتفاقيتي برشلونة 1995 الأوروبية المغاربية ، واتفاقية ايزنستات الامريكية المغارية سنة 1989 ، مضت عشريتان من التشكل الامبريالي لعدو يقطن ارض الإسلام. وغرقت  الأنظمة والشعوب العربية في مصارعة الذات للذات وتدمير بنيانها دون تمييز ظاهر بين اسلام النهضة والإصلاح والتنور الديمقراطي الوطني وبين التمثلات العصابية والدغمائية لمجاميع  وانتظامات إرهابية عدمية ومتوحشة للاسلام لا تمت بصلة لا لجمهورية افلاطون ولا لجمهورية النبي صلى الله عليه وسلم. بل ان قوى الامبريالية والاستيطان الصهيوني وعدد من الأنظمة العربية الاوتوقراطية كانت تبني مشروعيتها ومصداقية عسكرتها للمجتمعات والعالم على قاعدة تنميط اسلام صامويل هانتنغتون وبرنارد لويس في مربع التمثلات الارهايية والمتوحشة لاسلام صراع الحضارات ونهاية التاريخ البشري  بما يبرر لها ديمومة الاستبداد "الناجع" ومزيد التوغل في جغرافية الإسلام وما اتصل بها في افريقيا واسيا تحت نفس العناوين. وهو ما طرح على رواد النهضة جهودا مضنية للتميز والتمايز.

واثمرت بعض تلك الجهود بصيصا من الامل اسمه ثورة 14 جانفي 2011 في تونس وما تمخض عنها من حركة ديمقراطية لم تع ذاتها المتشظية الا بعد انقلاب يوليو 2021 . بعد عشرية مزلزلة لاركان الثورة الوليدة اشتركت فيها قوى الداخل والخارج ووكلاء التبعية والتمثلات الإرهابية والمتوحشة للاسلام والعلمانية، انتهت في مفتتح العقد الثالث للقرن الواحد والعشرين بافشالها وزج قادتها في السجون.

في هذه اللحظة الجديدة والمأزقية والمركبة تطرح مسالة تسمية الحركة من جديد.

وهنا يطرح السؤال حول طبيعة الحاجة الى استراتيجية جديدة للتسمية ؟ هل هي للتخفف من تاريخ ومسؤوليات الاتجاه والنهضة؟

ام هي الحاجة الى تدقيق البوصلة ومزيد احكام التموقع في الزمن السياسي الضروري والممكن وفي المكان الاستراتيجي المتحرك.

بعد اندلاع حرب اكرانيا وطوفان الأقصى واضطرابات افريقيا تغير المشهد الجيوستراتيجي الدولي واهتزت الكثير من الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية للمكان على الصعيدين الدولي والإقليمي وتهددت صفائح الأركان الأخلاقية لعهد الثورة الفرنسية للحقوق والميثاق العالمي لحقوق الانسان بالتصدع المريع والانشطار الدولي.

وفي غفلة من الزمن أضحت الصهيونية مذهبا من مذاهب القومية العربية تقتات من دماء أطفال غزة وعويل الثكالى وشهداء الأقصى. لكن في نفس الوقت قفز الحق الفلسطيني والقضية الوطنية الفلسطينية الى المربع الأول للإجماع العالمي للشعوب والأمم الحرة.

ما الذي توحي به هذه التحولات لقادة يقفون على تخوم تحولات جديدة ومفصلية في التاريخ من تخليق جديد للمعنى تبرزه التسمية الجديدة للحركة، ويعكس تطلعات الوطن والمجتمع والشعب ومحيطه العربي والمغاربي للتحرر والانعتاق ورفع الاصر والاغلال عن صدور التاس العارية واذهانهم وارواحهم المتقدة.

آندرو مارتش الاستاذ المساعد في قسم العلوم السياسية بجامعة ماساشوستس، والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة أوكسفورد، كتب دراسة جديدة عن النظرية السياسية المعاصرة والفكر القانوني والسياسي الإسلامي، وعن السيادة الشعبية في الفكر الإسلامي الحديث تحدث عن تحديثية الأستاذ راشد الغنوشي رئيس البرلمان المعلقة اشغاله.

واصدر المنظر والمفكر القدير منير شفيق مشروعه الاستراتيجي الكبير حول التحرير والتغيير والموقف من العروبة والوحدة والتجزئة وعن البنية الثورية للجماهير وعن النقاط العشرة التي تمخضت عن تجربته في حركة فتح واكتشافه ورفاقه من القوميين واليسار للبعد المكافح للإسلام.

وأرسل منير شفيق أيضا قبل أربعة أيام من تاريخ طوفان الأقصى رسالة الى اليسار الغربي دعاهم فيها الى فتح فضاءات للحوار من اجل توحيد البوصلة باتجاه مقاومة الأحادية القطبية.

فحركة النهضة بهذه الطريقة لن تكون بدعا بين حركات التحرر الديمقراطي والوطني وفتح افق تقدمي لمشروعها، بل هي في قلب الفعل التاريخي والديناميك الاجتماعي الوطني.

ومع رياديتها الملحوظة داخل جيهة الخلاص الوطني وتعاظم جبهة الخلاص الوطني الكيفي والرمزي وتعاظم الحاجة الاجتماعية الوطنية والإقليمية والعربية لمسارها رغم انحسارها الكمي، يمكن ان تسترد حركة النهضة يسارها ومسارها الليبرالي الاجتماعي، و تجترح باسمها الجديد سبلا للحركة الديمقراطية، وافقا للنهضة والتنوير، يحول طوابير الانتظار امام دكاكين الذل والزيت والخبز والسكر الى طوابير الفعل في خنادق الثورة والحركة الديمقراطية.

ويحق للحركة في هذه الحال ان ترفع عاليا اسما جديدا متجددا لها هو حركة النهضة الديمقراطية التقدمية في فصل جديد لمسيرتها الملحمية.