search

حزب حركة النهضة ... هل استوعب الدرس ؟

يبدو حزب حركة النهضة وكأنما استعاد بعضا من حيويته بعد موجة اعتقالات بعض زعاماته وقيادييه الكبار وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي ونائبيه الأبرزين علي العريض ونورالدين البحيري ورئيس مجلس شوراه عبد الكريم الهاروني ونائب الرئيس المكلف بإدارة الحزب الدكتور منذر الونيسي.

مع تكليف مجلس الشورى لعجمي الوريمي بالأمانة العامة للحزب، بدا وكأن الحزب أعاد ترتيب بعضا من أوراقه المبعثرة، وانطلق في تحركات أهمها الحضور على الساحة السياسية والاعلامية ومواكبة التحركات الميدانية، ولا سيما تلك المتعلقة بالقضايا السياسية الحقوقية وتحركات السلطة ومبادراتها الداخلية والخارجية.

تفاعل الحزب مع انتفاضة الأقصى تفاعلا محدودا، أشر على استمرار الوضع المرتبك للحزب والقيود التي لا زالت تحكمه.

ورغم أن الارتباك الذي أصاب الحزب كان له تأثير على حركته السياسية حضورا ومبادرة، إلا أنه يبدو أنه ينطلق أيضا من قناعة بعدم الاستعداد لأن يكون لا "كبش نطيح" ولا " كبش فداء"، في استخلاص لتجاربه المريرة في المواجهات السابقة مع السلطة. ذلك أن حوالي سنتين من عمر الانقلاب، ومحاولات تحريك الساحة السياسية والاجتماعية، من أجل الالتقاء على حد أدنى ضروري لمقاومته لم تؤت أكلها. كما أن الإطار الذي انضم إليه كواجهة لمقاومة الانقلاب، بقي في حدود المعارضة التقليدية، لا بل إنه تراجع عن الخط النضالي الذي أدار به "مواطنون ضد الانقلاب" الساحة لنصف سنة في نسق تصاعدي، كان من المفروض أن تمسكه "جبهة الخلاص" من آخر ما انتهى إليه، لا أن تنطلق وكأنها تستأنفه من بداياته.

وإذا كان من حق النهضة أن تستوعب درس الماضي، وترفض جرها إلى تكرار تجارب انفرادها في المواجهة، وهو الخيار الذي تحاول قوى عديدة جرها إليه، فهل استوعبت الدرس من زاوية أخرى، بأن تعتكف على إعادة بناء ذاتها بأفق متجدد، يسمح لها بأن تكون عند توافر اللحظة المناسبة، في مستوى تحديات ممارسة السياسة، بعرض سياسي واعد وبموارد بشرية جديدة قادرة على إدارة الحزب وحكم البلاد أو المشاركة فيه؟

لا يبدو مما يرشح عن الحزب أن هناك استيعاب للدرس من هذه الزاوية. إذ لا زالت طريقة التداول التقليدية للملفات الكبرى للحزب وفي اللحظات المفصلية هي ذاتها.

لا زال مجلس الشورى كمؤسسة عليا تسيطر روحه التقليدية المتوارثة في منهجية العمل وطريقة الحسم في الخيارات والقرارات على عمليات ضخ الدماء الجديدة فيه. ليس الأمر متعلق بجدية أعضائه وإخلاصهم ورغبتهم في البحث عن الجديد، ولكن الأمر يبدو أنه يتجاوزهم حيث تبدو روح المؤسسة أقوى من رغبات وطموحات أعضائها.

وكما الأفراد، يبدو مجلس الشورى وكأنه مؤسسة قد بلغت من العمر عتيا، فما عادت قادرة على التجدد في التفكير والعمل، وأصبحت تكرر ذاتها وتواجه الجديد بأدوات القديم المستهلك الذي لا يولد طاقة ولا يفتح أفقا فاعلا.

ونفس الأمر ينطبق على المؤسسة التنفيذية، حتى وإن تغير بعض أعضائها، فإن الوافدين يجدون أنفسهم داخل قفص لا يستطيعون التفكير خارجه حتى وإن كانت لديهم الرغبة الجامحة لذلك.

ليس الحديث السابق تقييما عدميا لتلك المؤسسات، ولكنه تناول للجانب السلبي فيها، الذي ربما كان أثره ضعيفا في اللحظات الأولى لانبعاثها، ولكنه كبر مع الزمن وأصبح قوة معطلة تزداد مع الزمن تعطيلا. وهذا شأن كل كائن حي - والمؤسسات من الناحية الاجتماعية كائنات حية - في دورات حياته الطبيعية.

تاريخيا، خاضت النهضة بقدر يكاد يكون فريدا عمليات الحوار والتقييم، ولها في ذلك تاريخ عريق وأرشيف يضم آلاف الصفحات. ولكنها تتوقف عند ذلك ولا تتجاوزه على مستوى الاستخلاص والتجديد إلا بشكل محدود جدا، حيث يستعيد المناضلون وعلى رأسهم القياديون مواقعهم التي كانوا عليها تقريبا، ضاربين صفحا عما يقتضيه التقييم من حكم على الأشخاص وليس فقط على الخيارات والخطط، وما تقتضيه الخيارات والخطط الجديدة من رجال جدد.

فهل يستوعب الحزب درس مسيرة خمسين سنة وثلاث مواجهات كبرى، وتجربة مليئة بالدروس بعد الثورة، ويقدم في جرأة على تغيير في طريقة العمل، تفضي إلى تجديد حقيقي في جسم أنهكته السنون وامتصت طاقة موارده البشرية البدنية والعقلية ... وحتى النفسية؟

لا زالت النهضة حزبا كبيرا، ولا زال خزانه كبيرا وواعدا، ولديه فرصة في أن يقدم على عملية تشبيب يستعيد بها ألقه ... ولتتذكر أنها عندما انطلقت في أواخر الستينات كان رئيسها لم يبلغ الثلاثين، وأنها عندما أعلنت عن نفسها كان رئيسها بالكاد قد بلغ الأربعين، وكان عمر بن عيسى الدمني عضو مكتبها التنفيذي خمس وعشرين سنة.

أحيانا يخيل إلينا نحن "شباب الستين" أننا قادرون على التفاعل مع واقعنا، وأننا نفهمه كما يفهمه أبناؤنا، وأننا قادرون على أن نفعل ما كنا نفعله، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما.

فهل يقدم حزب حركة النهضة على تخطي معوقات الخوف المرضي لدى نخبته عليه، وعدم الثقة إلا في ذاتها، وأن تقدم النخبة شباب الحزب (دون الأربعين) لإدارة حوار جديد ومتجدد داخله، تمهيدا لاستلام قيادته، وتأهيلا له لحكم تونس أو المشاركة فيه، فتقدم بذلك لتونس أعز ما تطلب، وتحقق استثناء في عالم النخب السياسية العربية والاسلامية؟