search

حكايتي مع رجلٍ أفضى إلى ربه

كان ذلك في أحد أيام شهر جوان 1984 ، بُعَيد صلاة العصر بقليل ، تمّ الإعلان عن نتائج مناظرة الباكالوريا في معهدنا معهد نصرالله الثانوي العريق ، وكنتُ وقتها في سنتي الخامسة ثانوي نظام قديم ، ولا أدري ما الذي جاء بي إلى المعهد ، وغالب الظن أنني جئت لأشهد تلك النتائج تحديدا، ففيها نتائج أصحابنا و"معلّمينا" الكبار ، وعلى رأس هؤلاء الصديق "الأستاذ" الحبيب الجملي ، فيلسوف حركتنا التلمذية الوليدة، وشيخ المناضلين وكبير مثقفي المعهد حينئذ ، لا يكاد يضاهيه أحد ، لا من أصحابه الإسلاميين ولا من مخالفيه اليساريين ، بل إن الحبيب الجملي يتفاداه الأساتذة المتأدلجون ، لأنه كان صاحب حجّة وبيان ، فصيحا وعميقا وشجاعا، واسع الاطلاع وغزير الكتابة .

اطلعتُ على القائمة ورأيت الحبيب من الناجحين ، فهرعتُ جرياً إلى جامع القرية حيث وجدته يقرأ القرآن ، فأخبرته فرِحاً سعيداً بأنني أوّل مَن بَشّره .

لا زلتُ أذكر كيف تلقّى صاحبنا الخبر بهدوء وبرود كأنه لا يعني له شيئا ، وقد كانت الباكالوريا يومها كبيرة وعظيمة كالجبل الذي يطوّق المدينة الوادعة الهادئة .

خرجنا سويّا في اتجاه المعهد ليتأكد بنفسه من القائمة ، ولما أصبح ما قلته له يقينا ، لم يتغيّر ولم يتوتّر وبدا كأنه مجعول لأفراح أخرى، أو لمهام أخرى، وأذكر أنني قلت له بحبّ شقيّ إنني سعيد وحزين في نفس الوقت ، سعيد بنجاحك ، وحزين لأنك ستفارقنا إلى الجامعة، وسنفتقدك ولن نجد من يسدّ ثلمتك .

كان الحبيب الجملي المسؤول عن إعداد المجلة الحائطية المسجدية ، إعدادا وتحريرا وكتابةً ، وقد كان ذا خط جميل أخّاذ.

قد يساهم بعضنا باختيار بعض المقالات والاختصارات والتلاخيص في المادة الفكرية أو الفلسفية أو الفقهية ، ولكن الحبيب كان يتكفل بالبقية، وحين تهِن عزائمنا أو لا تسعفنا قريحة الكتابة، كان الحبيب "أُمّة" بحاله ، يكتب المجلة كاملة بمفرده ، في موعدها الأسبوعي الذي لا يتقدم ولا يتأخر، وكنا ننتظرها بلهفة وشوق كلما دخلنا المسجد لنرى هل تجددت المجلة ، ونستغرب نحن الذي عايشناه كيف يجد كل ذلك الوقت لكل تلك الكتابة ولا يخشى من فوات دروس الباكالوريا المجيدة ، لكن الحبيب لم يكن يأبه لذلك ، وقد نجح ولم يأبه ، وأبلغتُه ولم يأبه ..

كان رحمه الله رجلا أكبر من نفسه ، ومن مرحلته، ومن جيله ...

بعد الثورة ، وبعد أن كان ما كان من سجون وتهجير وإبعاد وإقصاء واستثناء ، التقينا في رحاب الجامعة بمناسبة مناقشة بعض الأطاريح لبعض الأصدقاء ، لمحتُ في وجهه حزناً عميقا وفاقةً بالغة ، ولم أجد الشجاعة لأسأله ماذا يفعل وأين وصل في دراسته وتحصيله وحياته الخاصة ، فقد كان واضحا من كلامه ومن همسات الأصدقاء أنه يعيش عالما خاصا به ، كالزّهّاد والعُبّاد والمجانين والصعاليك العظام .

من حسن حظي ، العاثر، أن الحبيب كان يبحث عن شيء بسيط بمناسبة نوبة سعال فظيعة ألمّت به ، ناولتُه ذلك الشيء وتمنيتُ لو سألني المزيد ، ولكنه تعفّف ، وخشيتُ أن أخدش كبرياءه باقتراحٍ أو عطاءٍ قد يراه سخيفاً ، ولا أدري ما إذا كنتُ مُصيبا أو مُخطئا فيما قدّرتُ ..

رحم الله أخي الحبيب ، وأستاذي الكبير ، الرجل الذي كان ، ولا زال يُبهِرني بثقافته ورشاقة جملته وفكرته .

رحم الله الرجال ، الرجال ، وغفر لنا تقصيرنا الكبير ، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه...

تاريخ أول نشر 2025/1/8