حوار مهم وحيوي مع الدكتور عبد اللطيف الهرماسي الأمين العام المساعد للحزب الجمهوري مع الإعلامي القدير بقناة الزيتونة عامر عياد.
تكلم فيه الدكتور عبد اللطيف المثقف والمفكر والباحث الجامعي وأيضا السياسي ...
رغم أن الحوار مرتبط بالوضع السياسي بصفة خاصة منذ الثورة ولحد الآن، إلا أن الإجابات اقتضت أن تكون لها خلفية ومسحة المتأمل والناظر والباحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي، والمتعقب والمراقب للحدث السياسي، وأيضا المستشرف لمآلات الأوضاع.
بدأ حواره بالتأكيد على الفرق بين الثورة التي كانت في بواعثها ومطالبها اجتماعية اقتصادية بالأساس، وبين مقاربة الانتقال الديمقراطي التي ارتكزت جهودها على تركيز الحريات الليبرالية. وهي المقاربة التي انصب عليها اهتمام حركة النهضة في إطار مركزية الحرية لديها، وفي إطار مركزية المجتمع مقابل التقليص من نفوذ الدولة. وهي فكرة لإن كانت من الناحية الاستراتيجية مقبولة، إلا أنها من الناحية التكتيكية كانت غير مناسبة، وخاصة في إطار الاستجابة للمطلب الرئيسي للثورة وهو الكرامة وتحسين أوضاع الناس الاجتماعية، ذلك أنه يتطلب تقوية دور الدولة على الأقل في المستوى المرحلي. لقد تم إعطاء الأولوية لإصلاح السياسة قبل إصلاح الاقتصاد، مما جعل النتائج تكون على حساب المطالب الحقيقية للثورة، خاصة إزاء حالة الاستقطاب الكبير الذي كان يسود الساحة السياسية، التي للأسف كان يغلب عليها الاستقطاب الإيديولوجي، الذي ضم معظم التيارات السياسية في تيار واحد إيديولوجي حداثوي علماني /لائيكي تغلب عليه النزعة الإقصائية الاستئصالية من جهة والاسلاميين من جهة أخرى. وانعكس ذلك على الأداء السياسي الحكومي.
لقد لعب ذلك التيار الإيديولوجي الذي جعل من معارضته للاسلاميين هدفه الرئيسي، دورا كبيرا في تجميع قواه المنتشرة في كل فواعل الساحة السياسية والثقافية والاعلامية والفنية و والاجتماعية والمدنية وحتى العلمية الأكاديمية وصوبها في اتجاه معارضة الاسلاميين وخاصة حركة النهضة، التي انكب جهدها في الإصلاحات السياسية وفق الأجندة الليبرالية، ولم توفر جهدا للاصلاحات الاجتماعية الاقتصادية، كان يمكن أن يساعدها على خوض الصراع بشكل أفضل، من خلال الاستجابة لمطالب الثورة ذات الأولوية. لا بل إن استيلاء فكرة التركيز على الإصلاح السياسي قد جعلها تخضع لابتزاز أصحاب المصالح الاقتصادية والمطلبية الفئوية المهنية القطاعية على حساب الاصلاحات الضرورية في مجال الجباية ومحاربة الفساد وإصلاح مسالك التوزيع وغيرها فضلا عن البرامج التنموية.
ورغم أن الساحة لم تكن خالية من الأحزاب والرموز التي تتبنى مقاربات فكرية وسياسية بعيدة عن الاستقطاب الإيديولوجي وعن النظرة اللائكية العدائية للدين، وتتبنى موقفا متوازنا يؤكد على حق الجميع في ممارسة قناعاته الفكرية والترويج لبرامجه السياسية بما فيها تلك التي تنطلق من الاسلام كمرجعية، كما في تجربة الحزب الديمقراطي التقدمي وغيرها من الأحزاب، وهو على المستوى الشخصي وكإنسان حداثي دعا منذ 1985 إلى علمانية غير مناهضة للاسلام، بل هو يدعو الآن إلى علمانية متصالحة مع الاسلام، إلا أن حدة الاستقطاب لم تترك مكانا للمقاربات المتوازنة، ولربما نال أصحابها هي أيضا التهميش والإقصاء من التيار اللائكي الحداثوي خاصة في المجالات التي يكاد يحتكرها كالاعلام.
لقد انعكس ذلك الاستقطاب على الحكم على العشرية الماضية التي وصمت بالسواد، وهو حكم متطرف وعار عن الصحة، ذلك أن للعشرية نواقصها التي أسلفنا ذكرها، ولكن لها أيضا إيجابياتها التي لا يمكن إنكارها، خاصة في مجال الحريات، التي لم تشهد له تونس مثيلا لا قبلها ولا بعدها. وأيضا في مجال الإصلاح الدستوري والمتمثل في دستور 2014، والذي باستثناء العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ووحدة السلطة التنفيذية، التي تبين أنها تحتاج مراحعة، فإن باقي بنود الدستور وخاصة في باب الحريات يكاد يكون نموذجا قل نظيره ولا ينتظر أن يكون عليه مزيد جوهري.
ربما يكون قد لعب ذلك الاشكال في العلاقة بين السلطتين دورا في اضطراب الاداء الحكومي حتى وصلنا إلى حكومة المشيشي الكارثية، التي استغل أداؤها تجاه أزمة كورونا ومشاهد السيرك في البرلمان تعلة للاستعمال المتعسف ثم الانقلابي للفصل 80 من الدستور.
لكن تورط جناح من الطبقة السياسية في الانخراط مع الانقلاب، كان مرتبطا أيضا بحدة الصراع الإيديولوجي، الذي أعمى أصحابة عن الانتباه إلى أنهم تورطوا في انقلاب سيأتي على أهم مكسب كان لا يجب التفريط فيه وإنما البناء عليه لاستكمال الشق الآخر من الثورة بل المطلب الرئيسي لها وهو الإصلاح الاقتصادي الإجتماعي.
يبدو أن الجميع تقريبا استفاق الآن على كارثة الانقلاب، وهو يصارعه محاولا التخلص منه عن طريق هذه "المعركة الإنتخابية" التي يستميت الانقلاب في تحويلها لبيعة لرأس السلطة ... ولا ندري أين ستسير الأوضاع ... وعسى أن يلعب الفاعلون غير المباشرين في المشهد، الذين نفذوا تعليمات الرئيس في 25 جويلية، دورا إيجابيا لا يقف أمام طموحات الشعب في استعادة ثورته، وفي المحافظة على دولته، ووضع حد لمسار انقلابي حرم فيه التونسيون من حريتهم، وزاد من حرمانهم من مطالبهم التي ثاروا لأجلها يوم 17 ديسمبر وتوجوها يوم 14 جانفي.
هذه القراءة لن تعوض الاستماع المباشر لحلقة ثرية وعميقة.
https://www.youtube.com/watch?v=ZaiAOaaDFkk
تاريخ أول نشر 2024/9/22