search

حوار مع أستاذنا أبو يعرب المرزوقي

تعليقا على تدوينة الدكتور محمد كشكار في صفحته على الفيسبوك، التي شاركتها في صفحتي يقول فيها: "مَن أسقطَ "النهضة من الحكم في تونس ؟ أسقطتها النخبة وليس الشعب بما فيها المحامون والأساتذة والنقابيون والمثقفون والجمعيات."

كان الحوار التالي مع الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي :

أبو يعرب المرزوقي:

أسقطها تعجل قياداتها وسوء التقدير: فمن بدأ من حيث انتهى ابن علي لا يمكن ألا يؤول به الأمر إلى ما آل إليه أمر حركة فتح في الضفة الغربية. الانقلابات في تونس لم تبدأ في رأس الدولة بل انتهت إليه. بدأت في الأحزاب التي وصلت إلى الحكم: فأين حزب الدكتور منصف المرزوقي وحرب الدكتور مصطفى بن جعفر وحزب الأستاذ الباجي قائد السبسي وحزب الأستاذ نجيب الشابي وأخيرا حزب حركة النهضة وقبلهم جميعا "الحزبان المسيطران على الاتحاد العام التونسي للشغل "؟ أما الزعم بأن النخب أسقطت النهضة فذلك هو الظاهر، لكن الحقيقة هي أن النخبة "لا تخبش ولا تدبش"، هي مجرد أجير دورها دور البوق الذي يردد ما يراد له ترديده، مقابل ما يعطى من فتات الدولة العميقة، يعني المافية التي تحكم حقا نيابة عمن نصبها وقد سماه البجبوح (كنية شعبية للباجي قائد السبسي) الرجل الكبير يعني ممثل الدولة الحامية لهذه المافية. فهي التي أسقطت إسلاميي الجزائر قبل عشرين سنة من ربيع تونس، وأسقطت إسلامييي المغرب بعد عشر سنوات من إسلاميي تونس.

أحمد عبد النبي:

أستاذنا .. ما تقوله لا يلغي ما قاله صاحب التدوينة، وذلك مرتبط بزاوية النظر ... استمعت لحوارك مع الصحفي القدير عامر عياد في قناة الزيتونة وهو ما لخصته تقريبا هنا ... ما طرحه السيد محمد كشكار يمكن وضعه في زاوية المقابلة شعب/نخبة، وما تذكره أنت ممكن وضعه في مقابلة الدولة العميقة/الحكم الجديد ... وهناك زوايا أخرى .. وقد أشرت أنت لبعضها، ومنها التآمر الخارجي وأذنابه/ قوى الثورة .... ويمكن أن أضيف ما هو من "قوانين الثورات"، وهي العملية الارتدادية السريعة التي تحصل لكل ثورة، ومنها بطبيعة الحال أيضا سوء التقدير وضعف القدرة على إدارة الصراع والوقوع في أخطاء التجربة البكر ... لكن الإنصاف يقتضي أن نذكر أيضا أن النهضة لم تدخل التجربة بادعاء أنها قادرة على الحكم، وهذا أكد عليه الكثير من قيادتها، وأن قرار دورة مجلس شورى الحركة في شهر جويلية 2011 أقر أن الحركة غير جاهزة ولا قادرة على حكم البلاد، ولكنها ستتقدم للانتخابات لأنها رأت أن الثورة مهددة، وليس هناك من تستأمنه على ذلك، وأنها ستدخل بقوة كي تضمن حضورا قادرا على ضمان عدم انتكاس الثورة، وقد رأت ما رأت من التآمر عليها (أي الثورة)، ومن التردد في الذهاب لخيارات ثورية تحفظها. وانها مستعدة للحكم مع قوى الثورة جميعها. وهو ما أعلنت عنه مباشرة عند تشكيل الحكومة، ولكنها جوبهت بالرفض القاطع من البعض ...

أستاذنا الكبير للحقيقة وجوه، وليس وجه واحد، ومن الانصاف النظر إليها جميعا ... وأنا شخصيا كنت مثلك نبه منذ البداية إلى الأخطار والأخطاء وسوء التقدير. و قد رأيت فيه أنت تشاؤما لمستقبل الثورة والنهضة، لما تشرفت بزيارتكم مرة صحبة الصديق محمد بن نصر وأخرى صحبة الصديق نورالدين الغيلوفي.

أبو يعرب المرزوقي:

ليس من الانصاف تحميل الغير مسؤولية الأخطاء الذاتية: فأولا الانتخابات الأولى للمجلس في أواخر 2011 خانتها النهضة، أي أنها لم تطبق إرادة الشعب. اختارت من تصورتهم ثوار -وهي تعلم أنهم لا قاعدة لهم-وإذن فهي أقدمت على الحكم مع من يستمدون قاعدتهم من بقايا حزب ابن علي، وتصورت أنهم سيكونوا طوع يدييها، فصار للدكتور منصف المرزوقي وللدكتور مصطفى بن جعفر لكل منهما الثلث المعطل. وكررت نفس العملية في انتاخابات 2019، تحالفت مع التيار الديمقراطي (البسكلات) وحركة الشعب (البراميل)، فكان ما لا يحتاج للتذكير. ثم تحالفت مع أفسد رئيس حكومة واعتبرته العصفور النادر الذي ستنصبه رئيسا، لتكون هي صاحبن القصبة والبرلمان. وأخيرا فالانقلاب في المؤتمر المعاشر لحركة النهضة، تعلمه أكثر مني، ثم تشويه اختيارات قاعدتها لانتخبات 2019 النيابية، وقبل ذلك وبعده اختيار من تورزهم في الغالب بمعيار الولاء للقيادة وليس للقضية، وذلك من اليوم الأول في الانتخابات الاولى. وأكبر خطأ هو تولية صهر الشيخ راشد الغنوشي لوزارة الخارجية، وهي أصعب مهمة في ذلك الوقت. وهو على ذكائه وكفاءته العلمية لا علاقة له بالسياسة والدبلوماسية.

وأخيرا فقد أعلمتهم بأني ارفض ان اكون وزيرا في مثل هذه التركيبة، لكنهم تصوروا أني زاهد في أداء الواجب. وما قبلت مسؤولية المستشار بعد أن حاولت اقناع الشييخ عبد الفتاح مورو أن يصحبني حتى نجنب الحكومة أخطاء "تعلم الحجامة في رؤوس اليتامى". لكن ما شاء الله حصل. لذلك استقلت. علما وأني ما انتسبت ابدا لحركة النهضة.

وإذن فكل ما أقوله علته أني أرى علاقة بين النهضة ومشروع النهوض، لكن تصوري لمشروع النهوض أوسع، وهو متحرر من ثقافة الانقلابات الشرقية، التي تدين بها الحركة للاخوان المسلمين وللتشيع وللأنظمة العسكرية المشرقية. وقد صادف أن حاورت زعيمهم الفكري السوداني ( يقصد الشيخ حسن الترابي) فتبين لي أنه "خفيف" وانقلابي وهو قد ساهم في ما يعاني منه السودان حاليا.

أحمد عبد النبي:

يا دكتور عجيب والله ... هي تحالفت مع من أمكن لها التحالف معهم ... وكأنما قد تحصلت على الأغلبية الكافية للحكم، وذهبت تجري وراء من لا وزن لهم حسب رأيك. وهي تحالفت مع من رضي التحالف معها بعد أن حاولت مع غيره ... ولم يكن هناك أي مبرر ولا منطق ولن يقبل لها أحد أن تتحالف مع فلول النظام القديم الذين وصلوا للبرلمان. ولو فعلت ذلك لقضت على نفسها، فضلا عن أنه لم يكن متوقعا أن يقبلوا هم الحكم معها إلا لوأدها ... نتكلم نظريا وكأن النهضة تحصلت على ما يسمح لها بالتصرف منفردة، أو أنها كانت ضامنة للدسائس التي لم تعد دسائس وإنما مؤامرات على المباشر ... النهضة لم تعمل في سعة من أمرها. كانت تتحرك تحت القصف وبرصيد مؤهلات محدود وتجربة قريبة من الصفر ... كنت أنا وآخرين دعوناها للإبتعاد عن الحكم، ولكن هي قدرت من خلال مؤسساتها أنه من الأفضل لها أن تتدخل بما تملك وتجتهد خيرا من أن تسلم البلد لمن سيغتالون الثورة ويغتالونها ...

وقد اجتهدت وأنجزت ما قدرت عليه مما هو في رصيد الشعب التونسي الآن، وأخفقت لأنه لا مجال لها إلا الإخفاق أمام التآمر الداخلي والخارجي ... أنا الذي انتقدت دخول النهضة وأدائها وكتبت ذلك علنا أجد من الإنصاف أن أقول أنها لا تتحمل وحدها وزر ما حصل، وأنها اجتهدت، وأن مآل الثورة كان بالضرورة أن يصل إلى ما وصلت إليه، ولكن تم ذلك بعد عشر سنوات من الجهاد الناصب والصبر والمصابرة وتحمل الأذى والمغامرة مما سيكتبه التاريخ في رصيدها ... لا أستطيع البتة أن أقول لو فعلوا ما قلته لهم لنجوا ... لأن هذا يفترض أنهم يتحركون على صفحة ملساء لا أخاديد فيها ولا حفر ولا مهاوي وبلاوي ... والمحصلة أنهم ارتكبوا أخطاء ... لا يماري في ذلك أحد ولا هم أنفسهم ولكنهم لم يرتكبوا خطايا ... لم يخونوا ولم يغدروا ولم يسرقوا ولم يبيعوا ... وتلك تجارب الشعوب تتكرر ...

الثورات التي حالفها النجاح النسبي منذ بداياتها يا دكتور - ومنكم نتعلم - هي تلك الثورات التي قامت على ممارستين ناجزتين بدون رحمة ولا شفقة وهما : قطع الأعناق وقطع الأرزاق لرجال النظام القديم .. وهذين الأمرين لم تكن النهضة بتربية قياداتها وبمبادئها وقيمها، وأيضا بالتحولات الكبيرة في المجتمعات، وفي الوعي الانساني، والعلاقات الدولية، ولطبيعة بلد صغير مثل تونس ... كل ذلك لم يكن ليسمح بذلك، ولو تصلبوا بعض الشيئ، وليس كما حصل في الثورات المشهورة لكانت البلاد مسرحا لشلالات الدماء ....

أما ما ذكرته من الأخطاء في إدارة الوضع، بدء من تشكيل الحكومة إلى غيرها، فهي أخطاء لا تنكر ولكن مع التنسيب في حجم تأثيرها ... ليس الأمر على أهميته كان سيكون أفضل، أو أن يمنع انهيارا للتجربة، لو تم هذا الاجراء أو استعيض عنه بذاك. وحتى موضوع الترشيحات لانتخابات 2019 وما حصل في المؤتمر العاشر لا يمكن أن يرقى على أهميته للسبب الأكبر لسقوط التجربة. لا بل إنني أقول أن كل ذلك كان بسبب ما عانته التجربة من صدمات وصعوبات وبسبب التقدير الذي يتم تحت القصف ... لا يمكن أن تختزل تجربة في قرار مهما كانت أهميته ... لا أبرر أبدا الأخطاء بما فيها أخطاء المؤتمر العاشر، ولكن دون أن أحملها أكثر ما تتحمل. وأنا العارف بدواخل النهضة وبتجربتها، تقديري أن الأمر نظر إليه بعين واحدة، وكان اجتهاد الأطراف المتنازعة يتم في مناخ من التوتر والخوف المتبادل على التجربة، وإن لم يخلو لدى الأطراف جميعا مما تحدث به النفس صاحبها من "شهوة الملك" التي تتخفى وراء الثقة الزائدة في الذات، مع تراكمات تجربة تجاوزت الأربع عقود كان فيها الاحتكاك قائما بين رغبة في الاستفادة من قدرة ومكانة زعيم صارعت به النهضة بورقيبة حتى في رمزيته، وبين رغبة ملحة منذ بواكير التجربة في العمل المؤسسي والديمقراطية الداحلية والشورى، كان الزعيم ذاته هو المنظر لها والممارس لها والداعي بقوة إليها، وعليها تربت أجيال الحركة مما لا نظير له في أي من الحركات والأحزاب التونسية ولا حتى العربية فيما قرأت وتابعت.

أبو يعرب المرزوقي:

كلامك وجيه بشرط الا يكون لها خيار أهم تجنبته، وهو عدم محاولة الحكم، لأن المعارضة كانت تكون أسلم إذا كان ليس لها بديل يحقق الهدف من الحكم. أما إذا صار الحكم عبادة فالنتجية هي العبودية التي آل إليه أمرها., وقد حذرتهم من الذهاب إلى الحكم والبقاء في المعارضة وقد شهد بذلك الأستاذ عبد الحميد الجلاصي فك الله أسره الظالم.,

أحمد عبد النبي:

هذا ما كنت أراه أنا وغيري أيضا، لكنهم رأوا ثورة مهددة وفضلوا المغامرة وخوض التجربة بما يملكون. وهو قرار لا يمكن أن يدان البتة، فلا يمكن أن يجادل أحد أن له مبرراته .... وتلك تجارب الشعوب ... ومن أخطائها تتعلم ... وقد تذهب حركات وزعامات ضحية أخطاء التجربة وتلك ضريبة النضال وتلك تضحيات الشعوب.

تاريخ أول نشر 2024/6/13