search

حول المبالغة في الكوميديا السوداء ... متى نجد آذانا صاغيا؟

نفسيا التنبير (السخرية) يقدم خدمة للانقلاب أكثر مما يضره وخاصة عندما يصبح يوميا وبشكل مستفيض.

علميا ذكر خصمك أو عدوك ونقل صوره وتصريحاته حتى ولو لنقده بل وحتى سبه يفيده وقد لا يضره إلا قليلا.

الدعاية الناجحة هي التي شعارها: اذكرني ولو بسوء .. انشرني ولو أنك تشتمني... ساعدني على إخراج المكبوت في صدور الناس بسبي والسخرية مني ... حول الغضب إلى ضحكة وحصة الوعي إلى حصة هزل ....

أدوار معاكسة لعبها المسرح النقدي الهزلي في مصر وسوريا وتونس في النصف الاول من الثمانينات حيث ساهم في تفريغ طاقات الرفض والمقاومة وكان ذلك بتشجيع من الحكام وأجهزة المخابرات.

حسن البنا نهى مستمعيه مرة عن التصفيق، لا لأنه حرام، ولا لإن التصفيق للنساء ! ولكن قال لهم: لا أريد لطاقتكم أن تفرغوها في التصفيق أريدكم أن تحتفظوا بها للعمل .

قرأت تدوينة صديقي عبدالرزاق بالحاج مسعود الثانية حول الوزيرين بعد تدوينة التنبير التقليدية التي برع فيها هو وغيره منذ الانقلاب ... تدوينة تتناول الموضوع على ان هناك جد وراء ما يبدو من تفاهة ... ما الغاية منه ومن يقف وراءه؟

شخصيا نبهت أكثر من مرة لما يحدث ... وعندي ان ما يحدث مقصود ... وان من يقف وراء تلك الصور والاقوال والافعال "التافهة" هم اسعد الناس بتنبيرنا ... وان منسوب الوعي الذي سيضيفه تنبيرنا لا يوازي منسوب الوعي الذي يمكن ان يفجره غضبنا من ذلك ... عملية التعرية والكشف والحفر والتفجير التي يقوم بها التنبير محدودة لا بل إنها تلعب دورا عكسيا من حيث انها تزيد من طاقة الصبر والتحمل بل والقبول وحتى الرضا بما يحصل ... ومفعولها التراكمي يحوله إلى مفعول نوعي يجعله يستقبل كل حدث تافه في ظاهره ومدمر في داخله إلى حدث عادي يمكن ابتلاعه واستساغته.

منذ بداية الانقلاب لاحظت ان هناك خطة لتوريد ما اسميته "الكاتالوج" المصري بكل ما فيه من تفاهة واستبلاه للشعب وضحك على الذقون يمارسه قائد الانقلاب بكل صفاقة وبعض طواقمه العسكرية وخاصة سحرته من الاعلاميين والمعارضة الوظيفية وعلى راسها من كانوا يوما ما في صف الثورة ... كل ما حصل هو ان النسخ واللصق لم ينفع لاختلاف في طبيعة التونسي فردا أو شعبا ... فتخلوا عن النسخ واللصق دون أن يتخلوا عن المضمون والمنهج ... اعتمدوا اسلوب "الري قطرة قطرة" ... والآن يمارس الانقلاب كل ما يريد وفق نفس خطة الانقلاب المصري ولكن بكاتالوج تونسي من حيث الدرجة.

من المؤسف ان نقول أن كل تطورات العلوم الإنسانية بعلومها الناشئة منذ أواخر القرن التاسع عشر ومناهجها التي تتطور بشكل مطرد لم تستفد منها إلا الدولة التسلطية ومن يقودها من الخلف أو في العمق ... هذه الدولة التي اختفت صورتها الفجة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية دون أن تختفي ميكانيزماتها وخاصة تواصل اجهزة المخابرات اعتمادها ضد كل معايير حقوق الانسان الجماعية والفردية التي يتشدقون بها ظاهرا.

اختفت صورتها الفجة هناك وبقيت "بحشيشها وريشها" عندنا تمارس كل اشكال التسلط الظاهرة والخفية المباشرة وغير المباشرة مستفيدة من كل ما كشفته العلوم السلوكية من منافذ لاخضاع الانسان وتزييف وعيه وتشتيت تركيزه وإفراغ شحنات الغضب والوعي الفعال داخل نفسيته الفردية والجماعية.

نحن نشارك يا سادة بفعالية في تزييف وعينا ... في تشتيت تركيزنا. .. في إخماد جذوة الوعي الفعال فينا ... نساعد الانقلاب على قبولنا بالهوان وبالذلة ... بل وبالرهبة منه ومن زبانيته وابواقه ... الانقلاب يستعيدنا ويعيدنا إلى ما قبل الثورة ... حين يتخطف الناس من حولنا ولا نقدر إلا على خطاب "نطالب" ... حين بمارس التعذيب النفسي والعقلي و البدني ونحن نحمدالله أننا لم نعد لعهد "الفلقة" و"الروتي" و"بيت الصابون" و"الاغتصاب" ... ومن يسكت على التعذيب الحالي مالذي يضمن انه سيصرخ عندما يكون التعذيب ماديا لانتزاع الاعترافات، والقتل تحت سياط الصعق الكهربائي ساريا، والاختطاف وبيوت الأشباح ومراكز الحجز السرية يتهامس بها الناس كما حدث في العهد الماضي ؟!

نسارع إلى اتهام الشعب، ولا نبذل ما يطلب من الجهد لتسليحه بالوعي ... نسارع إلى تسجيل قرفه من السياسة والسياسبين، ونحسب ذلك نصرا لنا، في حين أننا أول المتضررين من ذلك، وان الانقلاب اكثر المستفيدبن ... نسارع إلى تسجيل ونقل تذمر الشعب، ولهفه على الخبز، أو تذمره من غلاء المعيشة ... في حين ان المطلوب هو تجذير وعيه وتنمية غضبه ...

لا شيئ عندي يأتي اعتباطا مما نرى مما نعده تفاهة ... فالذي لا يأتيه المنقلب في شخصه بوعيه وهو كثير وعليه دلائل لا يرقى إليها الشك، تاتيه القوى التي وراءه بوعي كامل وبتخطيط ومتابعة ورصد ... والذي يخرج عن إرادتهما تنشئه شبكة العلاقات الاجتماعية التي لها قوانينها التي تسير عليها ...

وحين يترك "الفاعلون الاجتماعيون" المؤمنون بالحرية والكرامة الساحة أو يتحولون بسلبيتهم إلى ادوات موضوعية في يد الانقلاب فإنها لا تفرغ من غيرهم ... الذين سيفرحون مرددين " خلا لك الجو فبيضي وصفري" .

تاريخ أول نشر 2023/9/16