search

حول ما يدور في البيت النهضاوي

كتبت منذ أيام وقبل ان يحدث ما يحدث انه لا ديمقراطية بدون الاسلاميين، وأن رحم النهضة هي الرحم الواعدة بالمستقبل الديمقراطي لتونس والتونسيين.

من كان يتابع تاريخ النهضة عن قرب يعرف أن صراع الفرد والمؤسسة ولد مع ولادتها تقريبا. ومنذ أول قانون أساسي تركزت فيها فكرة "الفصل بين السلطات" وفكرة " الحد من تغول الفرد"... ومع ذلك فقد كانت تعيش تناقضا من نوع آخر... وهو أن "زعيمها" وصانع مقولاتها بما فيها ما له علاقة بالديمقراطية، من الذين يرون من البداية ان ما سنته الحركة في قانونها الأساسي من فصل مخالف لما يقتضيه العمل في الاحزاب من عدم فصل... ثم لما كان تحديد التمديد تمسك أيضا بنفس الحجة.

وبقدر ما تمسكت النهضة بزعيمها لاسباب كثيرة يأتي على رأسها أهليته، فإنها كانت متمسكة بعدم التزحزح عن "عدم جعل الفرد يعلو على المؤسسة"... رغم أن الواقع وفي جدلية العلاقة "بين الشيخ ونخبته" كانت تجري مياه كثيرة تخلخل "البناء الديمقراطي النهضوي" الذي سنه القانون الاساسي وفرضته التقاليد المؤسسية للمكتب التنفيذي الذي برغم انه مختار من طرف الرئيس إلا انه يصدر قراراته وفق الاغلبية وبالتصويت.

إن حالة "التناقض" تلك وصلت أحيانا إلى لحظات حرجة جدا، حين يفرض على "الرئيس العلني" أن يقبل أن يكون رئيسا غير فعلي وأن يلتزم بما يصدر له من أوامر . وقد ترجم هذا في زمن ما قبل الثورة من خلال مقولة "السجن إحاطة" و"المهجر إحاطة"...فالرئيس عندما يحاط به يفقد منصبه.

اجتهدت الحركة في حل إشكاليات الازدواجية بين الرئيس القانوني والرئيس العلني ولكن من خلال عدم التعسف على القانون ومن خلال عدم استسلام المؤسسة للفرد.

في ذلك المناخ كان هناك جدل فكري وعملي و"استراتيجيات" و"تكتيكات" بمنطق "التوافق" أحيانا و بمنطق "المغالبة" احيانا اخرى. لكن الوعي الجمعي كان يحاصر "نزوعات" الرئيس كما يحاصر "مخاتلات" النخبة.

المشكل ان جدل "النزوعات" و"المخاتلات" جعلهما متفقين برغم تعارضهما في محاصرة مقاربات التأسيس الديمقراطي المؤسسي وفق قواعد العمل الديمقراطي في محاضنه المتقدمة وهي التي تشبع بها الوعي الجمعي كروح حتى وإن كان لا يفقه مضامينها واجراءاتها .... يعرفها بالسلب إن شئنا ... يعرف ان إدارة الحركة متكلسة ما قبل ديمقراطية و يعرف ان البناء المؤسسي هجين .

بعد الثورة استفحل الأمر ولكن دون أن تتخلى الحركة كوعي جمعي عن مطالبها في الديمقراطية الداخلية .... رأت من النخبة "تلاعبا" ورأت منها ما لا يختلف عما يرمى به الزعيم .... تهفت "المعارك" اذا كان "القرب" وتشتعل إذا كان "البعد" .... وتصل نقطة اللاعودة إذا صار احدهم " آيس من رحمة الزعيم".

بعد الثورة أيضا أصبح البحث عن النفوذ وطلب المشاركة في النفوذ مسألة مصيرية للبعض ممن يرون انهم بلغوا ما به يستحقون ....

لا أشك أبدأ في ان الوعي الجمعي النهضوي مع المأسسة ضد الفردانية ومع أرقى ممارسات التسيير الديمقراطي ضد البدائية والسلطوية . ولكنه يطلبها من الجميع ولا يفرق في مطالبه تلك بين الشيخ ونخبته.

لكنه أيضا يريد تحولا يبني ولا يهدم، يعزز المكاسب ولا يأتي عليها، يقدر الوضع والمآلات، يزيد الحركة قوة ولا ينقصها، ينفع تونس ولا يضرها، يعزز صمود الاقليم ولا يزيد من اختراقات العدو فيه.

كل هذا الأمر لن يتم إلا بقناعة راسخة وتسليم من الرئيس بأنه لا مجال للتجديد وأن عليه وعلى الحركة أن تفكر في تصريف قوته في أدوار ممكنة وفاعلة وحقيقية خارج رئاسة الحركة وخارج " العمليات التمثيلية والتياسة".... والعقل خلاق....

كما على النخبة ان تخرج من " المخاتلة" الى مساعدة الرئيس على بلورة بديل مؤسسي معاصر ديمقراطي حقيقي.... يقطع مع النزوعات الاستبدادية.

الحركة تعج بالحكماء والطاقات.. وعلى الجميع التواطئ على صدق التوجه وعلى الصبر الجميل لبناء حوارات عملية وجادة من اجل " بناء جديد" سينعكس على تونس ويمثل المقابل العقلاني لمشروع "البناء الجديد الشعبوي الاستبدادي"... وهذا يقتضي بالضرورة تأجيل موعد المؤتمر .... وتلك أولى علامات الجدية لبناء وضع مستقبلي جديد وواعد ....

لا خير يرجى من الحوارات المتشنجة فضلا عن الخطاب البذيئ الذي يشرعن لنفسه من خلال " لا يحب الله الجهر بالسوء" ففي هذا الموضوع "الكل ظالم ومظلوم" .... والقطيعة تشحن بكلام غير منضبط يخرج عن أدب المحاورة وعن اللياقات مع علمنا ان الجدل غير مامون الانفلات في القول.

من يقنع الشيخ راشد الذي بذل للحركة ولتونس وللامة ما لا ينكره الا جاحد .... من يقنعه ان ما سيقدم عليه من ترك المنصب سيكون خيره أضعاف أضعاف الخير الذي سيأتيه لو تمسك به .... من يقنعه أن ما سيقدم عليه حتى وان أدعى البعض انه تحت سيف الاضطرار سيعد فتحا في دنيا العرب والمسلمين وسيكون له ريعه في الدنيا والآخرة .... من سيقنعه ان دوره ان يشرف بحياد وشفافية ولكن بحكمة وعقلانية على تجديد مؤسسي شامل وعقلاني يأخذ باحدث اساليب الحوكمة.... وظني انه لا يقدر عليه فكريا وعمليا غيره في الحركة ...

أرجو أن يفكر الجميع وعلى رأسهم الشيخ راشد في ان يحفظوا لهذه التجربة التونسية تألقها وان يسفهوا احلام المناوئين .... وما اكثرهم في الداخل والخارج....

تاريخ أول نشر 2020/9/19