قرأت مقالا منذ أيام للكاتب الصحفي صلاح الدين الجورشي بعنوان : "جماهير تعشق الإستبداد وتستبطنه" يكرر فيه ما ذكره عبد الرحمن الكواكبي حول الاستبداد، وما خطه فرانس فانون من خضوع الشعوب للقولبة النفسية التي يمارسها المستعمر/المستبد عليها مما يجعل البديل الوحيد أمامها "استعادة النموذج" الذي صدره لها المستعمر ، ثم يختم بجوستاف لوبون وكتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير" ومنه قوله : ""من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيّدا لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم".
لست في وارد إنكار هذه الزاوية في التحليل فهي معلومة بل ومشاهدة. لكن الاقتصار عليها وحدها يقدم صورة مغلوطة لحقائق الواقع، ويفترض أنه فضاء إقليدي مسطح ليس له إلا زاوية واحدة ووجه واحد.
منذ حوالي 15 سنة سجلت أطروحة لنيل الدكتوراه بعنوان: النخبة والتغيير في المغرب العربي، حالت بيني وبين استكمالها ظروف قاهرة، لكنني بذلت فيها مجهودا كبيرا يعد جزء مهما من زادي المعرفي أعتز به. وكعادتنا نحن المغاربة والتونسيون خاصة، وبتأثير من المدرسة الفرنسيةK أنفقت وقتا طويلا في استيعاب الانتاج المعرفي النظري المرتبط بالموضوع، وخرجت منه بعد أن تشكل عندي مدخل منهجي ثابتK وإن لم يكن وحيداK في التحليل عند الحديث أو التفكير في موضوع التغيير الاجتماعي.
أحد الخلاصات المهمة التي خرجت بها هي أن النخبة كفاعل من فواعل التغيير الاجتماعي يعتبر معطى "وجوديا" إن صح التعبير في أي مجتمع. فالمجتمعات تتهيكل تلقائيا مهما كانت صور اجتماعها في نخبة (صفوة،سراة) وشعب (جمهور، عامة، قاعدة). تختار المجتمعات نخبها بناء على ما يبرز في المجموعات ( التي اتخذت أشكالا متعددة في التاريخ ) من قدرة على تقديم أنفسهم كوكلاء لها لتسيير شؤونها التي لا يمكن القيام بها إلا من خلال "نخبة". وبرغم الجهود التي بذلتها الانسانية في جعل ارتقاء تلك المجموعات إلى مرتبة "الوكيل" تتم عن اختيار حر من المجتمع/الشعب، إلا أن الممارسة العملية جعلت النخب بما تملك من وسائل السلطة المادية والرمزية، قادرة على افتكاك موقعها إن لم يكن بالاقناع فبالإكراه المباشر او المقنع.
وفطرة الجماهير والشعوب تميل بطبيعتها للحق والخير والجمال، ولديها عقل جمعي قادر على اختيار الأصوب والأفضل. ولكنها قد تخضع لعملية غسيل مخ وتلاعب بالعقول تشوش عليهاحسن الاختيار. ومن يقوم بذلك هي النخب التي تتمكن من السيطرة على المجال العام، وتعقد صفقة قذرة مع الاستبداد، تقتسم فيها المنافع معه أو ترضى منه كرها بالفتات مقابل تلبية رغباته.
وحين تتوسع السيطرة وتستهدف الشعوب في هويتها وأمنها وعيشها، تحاول الاستنجاد بنخب معارضة أو ناشئة كي تقاوم بها تغول النخب الحاكمة. ويحدث أن يطول الصراع بين النخب ويتعقد ويذبل الأمل في التغيير، فتنكفئ الشعوب على نفسها، وتحاول التشبث بالحياة بأي طريق ممكنة وأقل كلفة. حتى إذا ما نفدت الحيلة ونفد الصبر، انتفضت انتفاض "حرارة الروح"، محاولة الخروج من حالة اختناق أطبقت عليها أنفاسها، ويكون دورها "هادما لا بانيا"، تقتنصه نخب جديدة، لتبني عليه واقعا جديدا، يحمل من الصلاح أو الفساد بقدر ما تحمله تلك النخب من قوة وامانة أو خسة وخيانة.
أردت أن أقول، أنه بقدر ما في الزاوية التي ذكرها الكاتب من وجاهة، فإنها لا يمكن أبدا أن تخفي زوايا أخرى، ومنها مسؤولية النخبة في الوصول بالأوضاع إلى حالة القعود، ومسؤوليتها أيضا في الخروج بها إلى حالة الصعود. من هذه الزاوية يصبح الإزراء بالجماهير والشعوب فضلا عن نعتها بنعوت الإنتهازية والغباء وما إلى ذلك، إن هو إلا محاولة من النخب التفصي من مسؤوليتها ودورها في ما وصلت إليه الشعوب، وأيضا دورها في بعث أمل يشجع تلك الشعوب على السير وراءها لتغيير الواقع نحو الأفضل. فالشعوب ليست غبية كي تقف وراء نخب عجزت عن حماية ثورة أو لا تحمل ما يمكن أن يقنعها من أنها تحمل بديلا يمكن التضحية في سبيله.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ### ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تاريخ أول نشر 2024/9/17