جئت ألبانيا بعيد انهيار النظام الشيوعي بها، وعايشت تحولاتها ليوم الناس هذا . و كنت كثيرا ما حدثت أصدقائي بالتشابه الكبير بين مسارها و مسار الثورة التونسية، مما ينذر بتشابه النهايات .
غني عن التأكيد أن بين ألبانيا و تونس من عناصر الإختلاف ما لا يخفى تاريخيا واجتماعيا وسياسيا وجيوستراتيجيا، و لكن من المهم التأكيد أن بينهما من وجوه التشابه أيضا ما لا يمكن إخفاءه أو تجاهله تاريخيا واجتماعيا وسياسيا وجيوستراتيجيا أيضا. إذ يجمع بينهما تاريخ مشترك هو تاريخ الاسلام دينا وثقافة وحضارة وإدارة، لا سيما في حقبة الخلافة العثمانية، وتاريخ البحر الأبيض المتوسط (نستحضر المؤرخ بروديل)، وتاريخ الفنيقيين حيث شكل الثلاثي: ألبانيا – لبنان (صور) – تونس (قرطاج ) تاريخا مشتركا، وإن كان لم يحضى ببحث عميق لحد الآن. كما يجمع بينهما موقعا جيوستراتيجيا متشابها، من حيث انفتاح البلد على "الخارج" واستقباله لأكثر من 12 إمبراطورية غازية على مدار التاريخ لعبت دورا كبيرا في تشكيل السمات النفسية والاجتماعية لشخصيته، كما شكل على مدار التاريخ قنطرة العبور بين "الشرق" و"الغرب". ولا يشذ عن ذلك التشابه مشتركات كثيرة في سمات الشخصية الأساس برغم وجود عناصر مهمة فارقة كما أسلفت.
ويهمني أن أؤكد أن من أوجه التشابه على المستوى الإجتماعي فيما له علاقة مباشرة بتجربة الانتقال الديمقراطي هو طبيعة النخبة الألبانية. ذلك أنها حاكمة ومعارضة علمانية يعقوبية تكوينا وممارسة منذ رجالات النهضة الأوائل (أواخر القرن 19) إلى الحقبة الملكية وأخيرا الحقبة الشيوعية . ومعلوم أن أنور خوجا كان قد درس في فرنسا، ثم درّس في معهدها الفرنسي في كورتشا (ألبانيا)، وحافظ على علاقة بفرنسا لم تنقطع حتى في أوج "تطرفه الإيديولوجي"، فكانت أعداد معتبرة من النخبة استكملت تخصصاتها في الجامعات والمدارس الفرنسية العليا.
أعود للحديث عن التشابه بين التجربتين لأؤكد ما يلي :
- أهم ما ميز المعارضة الألبانية التي استلمت الحكم بعد انهيار النظام الشيوعي هو فقدانها لبدائل جاهزة للحكم تخطيطا و إدارة و مشاريع، و كذلك جهلها بالدولة كجهاز واستهانتها به . وبرغم أن قيادة الحزب الرئيسي المعارض وهو الحزب الديمقراطي لم تكن غريبة عن أجهزة الدولة فكلها تقريبا كانت إلى وقت قريب قيادات في الحزب والدولة، إلا أن قاعدتها والتحالفات التي نسجتها مع الأحزاب التي كانت مضطهدة ومنفية زادتها ضعفا وارتباكا.
- أهم ما ميز الحزب الشيوعي القائم أنذاك هو أنه حاول مبكرا استباق الأحداث وإعادة "صياغة" هويته، حيث غير اسمه من الحزب الشيوعي إلى الحزب الاشتراكي، وغير طاقم قيادته وتقدم للساحة بقيادات جديدة، وفي نفس الوقت استثمر معرفته الكبيرة بالدولة وشبكة علاقاته الداخلية والخارجية وخبرته السياسية والاعلامية في إدارة الصراع. كما شكل وبسرعة فائقة شبكة مصالح اقتصادية وأظهر براعة في التكيف مع اقتصاد السوق عبر إنشاء شبكة رجال أعمال ومضاربين لعبوا دورا مبكرا في الانهيار السريع لحكومة الحزب الديمقراطي .
- إن المتتبع ليوميات التحول الديمقراطي في ألبانيا وليس فقط مراحله الكبرى يصاب بالدهشة لتشابه الوقائع والمبادرات وردود الأفعال السياسية والشعبية والإعلامية على نحو يجعلك تستعيد العبارة المشهورة "حذو النعل بالنعل".
- في خضم التجربة ككل، لا شك أن هناك فرقا بين ما يعتبر اختيارا استراتيجيا، وبين ما يعتبر اختيارات تكميلية أو جزئية. وإذا كانت نتائج التجربة هي محصلة ما مارست وأنجزت، فإن المفاصل الاستراتيجية فيها هي التي تلعب الدور المحوري في نتائجها .
- ليس هناك أي دارس للتجربة الألبانية لا يؤكد فشل المرحلة الانتقالية التي تعيشها، وأقل مؤشر في ذلك هو استمرارها لمدة 27 عاما. لا بل إن هذا التأكيد لا تختلف عليه حتى الطبقة السياسية ناهيك عن الشعب الألباني ذاته.
- لا يختلف الدارسون ولا عامة الشعب الألباني على أن الفاعل الرئيسي في هذا الفشل هو النخبة الألبانية، التي أظهرت عجزا بينا في صناعة البدائل وفي إدارة الدولة وفي التوافق حول ما يحقق الانتقال الحقيقي ويخرج البلاد من مخلفات حقبة سوداء امتدت 50 عاما بل أكثر من ذلك.
- الطريف أن هذه النخبة على المستوى الشكلي حققت "نجاحا" خاصة في بداية انهيار النظام الشيوعي، حيث جنبت ألبانيا انهيارا دمويا كالذي حصل في رومانيا وفي بقية المعسكر الشرقي عموما، كما أظهرت قدرا من ضبط النفس للوصول إلى توافقات في لحظة الصفر.
ولكن – للأسف - كانت تلك التوافقات تتم من خلال الوصول الى صيغة تضمن الاشتراك في ممارسة السلطة للتمتع بمزاياها المفضية الى الثروة .. "الجاه المفيد للمال" كما قال ابن خلدون. في هذا الإطار ارتكبت النخبة الألبانية خطئين استراتيجيين لعبا الدور المحوري في "صناعة" الفشل التي منيت به التجربة ولا زالت.
- الخطأ الاستراتيجي الأول هو اعتماد نظام الحكم البرلماني القائم على نظام انتخابي يجعل البرلمان ومن ورائه السلطة التنفيذية خاضعة ومرتهنة للأحزاب لا بل للأفراد، في ظل استحالة تكوين أغلبية حكومية مريحة ناهيك عن حكم حزب وحيد . مما يجعل البرلمان سوقا لبيع وشراء الأفراد والبرامج، ومصدرا رئيسيا من مصادر الاستثراء المشبوه تفتقد فيه أي محاولة جادة لقطع خطوات انتقالية لتحقيق مطالب الشعب في الحرية والكرامة والعدالة. وبطبيعة الحال فإن "التوافق" امتد للسلطة القضائية فحولها إلى سوق مضاربة للتلاعب بالدولة والعدالة. وفي إطار هذا "التوافق" أيضا ضاعت حقوق آلاف المضطهدين السياسيين وتم التلاعب بأرشيف التاريخ الأسود للنظام الشيوعي ونجا المجرمون من المحاسبة بل واستعاد غالبهم موقعه في السلطة.
- الخطأ الاستراتيجي الثاني هو طريقة حل مشكل الملكية وهي أم القضايا في ألبانيا. حيث أن النظام الشيوعي كان قد أمم كل أنواع الملكية فردية كانت أو جماعية أو وقفية وطرأ على تلك الملكيات بفعل الزمن تغييرات كثيرة. وكان المطلب الأساسي وفي نفس الوقت المخرج السياسي/الاقتصادي من النفق الشيوعي يمر حتما من باب الملكية. وعلى عكس الحلول الجادة والمسؤولة التي تمت في كثير من بلدان أوروبا الشرقية، عمدت النخبة الألبانية "للتوافق" على حل يزيد مشكل الملكية تعقيدا ويجعل السكان في مواجهة بعضهم بعضا، وتقدم السياسيون من خلال مواقعهم في السلطة وفي الدولة للعب دور الوسيط / المضارب للتلاعب بحقوق الناس وملكياتهم وإنهاك الناس في صراعات مدمرة بينهم واستثمار ذلك في الاستثراء الفاحش عن طريق الرشاوي وبيع الوثائق والمستندات ونهب الدولة والافراد .
- خطأين استراتيجيين تما في إطار "التوافق" ولكنه توافق أفضى إلى تدمير البلد تدميرا كبيرا، حول المرحلة الانتقالية إلى عقود من الزمن ولا يوجد مؤشر جدي على الخروج منها .
- تشترك التجربتان الألبانية والتونسية في الخطأ الاستراتيجي الأول المتعلق بنظام الحكم، وتختلفان في الخطأ الاستراتيجي الثاني. إذا كان المشكل الأكبر في ألبانيا هو مشكل الملكية فإن المشكل الأكبر لدينا في التجربة التونسية هو المصالحة. ذلك أن مستقبل البلاد متوقف على الطريقة التي سيتم بها إجراءها. فإما أن تتم وفق مبدأ وقانون العدالة الانتقالية المعزز بالدستور وإما أن تتم وفق "التوافقات" الجانبية الالتفافية على العدالة والقانون روحا ونصا. ليس في طبيعة التونسيين مكان للثأر والأحقاد. وأجزم أن كل التونسيين المتضررين مستعدين للصفح والمسامحة وفق مبدأ العدالة الانتقالية التي تتجاوز رد الحقوق لأصحابها إلى رد الحقوق للمجموعة الوطنية ولدولتهم بل وللإجيال اللاحقة، ذلك أن عمليات النهب التي تمت هي التي دفعت الدولة للإقتراض موظفة بذلك أحمالا على الشعب وعلى أجياله اللاحقة. وفي مقابل الروح المتسامحة لعامة التونسيين، نلحظ للأسف أن غريزة الثأر والحقد والجشع والأنانية والاستهتار بالقانون تتلبس قطاعا مهما ممن مارسوا نهب الدولة واستثروا على حساب الناس، و يوظفون كل ما أوتوا من إمكانيات مادية ومعنوية لإذلال النخبة وشراء ذممها من أجل تحقيق أهدافها في النجاة من "قفص" العدالة الانتقالية .
- ليس فيما وصفت به النخبة إنكارا لما فيها من خير ولا تبخيسا لما يقوم به بعضها من مقاومة ولا تجاهلا لما تعانيه من ضغوط. ولكن العبرة بالنتائج، ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان، ونرجو لهم تكريما في الدنيا والآخرة .. لكن سنن الله غلابة ولا تحابي أحدا.
تايخ أول نشر 28\4\2017