- هل أكون من خوارج اليسار إن أنا قلتُ إنّي قد خرجت على الوطد؟ تساءل الفتى.
أربعينيّ يتمّ آخر خطاه في عمر الشباب ليقتحم كهولة مجهولة لا عمل فيها ولا بيت ولا زوج ولا أبناء ولا ما يحقّق "فرحة الحياة".. تلك عبارة بورقيبة أبِي الوطد البيولوجيّ.
قال لي الفتى:
- الحياة كانت فرصة، عبرت بجنبي ولم أنتبه إليها، أو لعلّها هي التي لم تنتبه إليّ. الآن ما عادت تعنيني، فقد عشت ما أرى فيه كفاية لي. ولقد اكتفيت بأن وصلت.
- إلامَ وصلتَ؟
- وصلت إلى اكتشاف الوهم بحلول الفهم.
- ما الذي أوهمك؟ وما الذي ألهمك فأفهمك؟
- هذا الطوفان انفجر في دماغي كما لم ينفجر في غزّة وفي العالم. أكثر من عام مرّ وأنا في غزّة وبين أهلها لا أكاد أغادرهم إلّا إلى نوم لا يطول.. لا يطول نومي لأنّني أعلم أنّ أهل غزّة لا ينامون، إذ في نومهم موتُهم.
أصرخ مع الأطفال من الألم وأتضوّر تضَوُّرَهم من الجوع وأنوح مع نسائها من ثكل أبنائهنّ وأجد من قهر الرجال المحشورين في العراء عُراةً بين الدبّابات. لقد تطهّرتُ بما عشت مع مشاهدهم.
- ممّ تطهّرت؟
- تطهّرت من الوطد، وقد كنت منهم أقول بقولهم وأرى رأيهم.
- أذكر أنّني كنت أجد بين أشيائك بالبيت، لمّا كنتَ طالبا، منشورات عليها إمضاء "طلبة شيوعيّون". كنت أقول في نفسي أن يكون شيوعيًّا خيرٌ من أن يكون سطحيًّا. في زمن بن علي عمّت السطحية كلّ مجال حتّى كان مجرّد التشبّث بفكرة طريقَ نجاة من الغرق في البذاءة. ولو كانت تلك الفكرة هي الشيوعيّة بترجمة الوطد.
ضحك الفتى من كلامي.
- ما الذي يضحكك؟
- ليس أكثر سطحية من الوطد.. ولا بذاءة.
- والمادية الجدليّة والاشتراكية العلمية والمجتمع الشيوعيّ اللا طبقي والثورة الوطنيّة الديمقراطيّة؟
ضحك مرّة أخرى. وقال:
- كلّ ما في الأمر أنّ الشباب المسحوق من أبناء الفقراء في الأرياف والقرى، مثلي، يعثرون على أمور لم تكن في وسعهم ويتوهّمون حظوة لم يشعروا بها من قبل ويجدون ما يبرّر لهم شرب القوارير ومنادمة القوارير تحت الأضواء والأدخنة الغاوية. الذي تخلّق في الجفاف مثلي تغويه الطراوة. والشيوعيّة، كما عرفتها، في تونس، سوق طراوة. ضحاياها من الفقراء ومن النساء.
- النساء؟
- إي نعم.. لولا بعض الحياء منك لقلت لك بأيّ نصفَيه يفكّر ذَكَرُ الوطد.
- والنساء؟
- يظنُنّ برفاقهنّ خيرا، ولا خير فيهم.
- لا تبالغ. الشيوعية نظريّة عالميّة لها أتباع في كلّ زاوية من هذا العالم المترامي، حتّى بين المجتمعات الأكثر ليبرالية. وقد جعلت لها معسكرا استفادت منه الشعوب المظلومة واستعانت به على خوض معارك تحريرها من محتلّيها.
- في تونس، لا تكاد تجد ما يليق بالماركسيّة. على أنّ ماركس ذاته ليس أكثر من منتَج ليبراليّ يضع لحية متمرّدة على الليبرالية. كان يكفيه أن يحلق لحيته لتتعرّى ليبراليته. الماركسية فيروس ليبراليّ صنعته الليبرالية وزرعته في بدنها ليكتسب المزيد من مناعته. أرأيت كيف أنّ امبراطورية الاتحاد السوفياتي انهارت في لحظات مثل قصر من الرمل على شاطئ البحر وانهار بانهيارها نصف الأرض؟ لقد كانت الشيوعيّة أشبه بلعبة خلقتها الرأسماليّة الناطقة باسم الحداثة الغربيّة، ثمّ لمّا جاء الوقت تخلّصت منها.
- يا فتى !
- من لم يحمله طوفان الأقصى على مراجعة أفكاره فليس من العقل ولا من الفهم في شيء. الآن تبيّن لي أنْ لا خلاص لهذه الأمّة إلّا بحماس. وحماس، شئنا أم أبينا إخوان. هم الإخوان مهما حاولنا أن ننكر احتكاما إلى زوايانا الإيديولوجية الضيّقة. وليس من العقل ولا من الرجولة أن تشترك مع الأنظمة العربيّة الرجعية العميلة المطبّعة والمتخاذلة ومع العدوّ الصهيونيّ في مهاجمة الإخوان وتدّعي أنّك تدعم المقاومة أو تحمل همّ فلسطين.
هذه لصوصيّة عارية. وإنّه ليس أكثر لصوصيّة من هؤلاء اليسار، من الوطد ومن غير الوطد.
- كيف؟
- في الجامعة حملة تنافس بين الفصيلين النقابيين المعروفين. وقد قرأت بيانا انتخابيا لقائمة من اليسار في بعض مؤسسات الجامعة سمّت نفسها "قائمة الشهيد يحيى السنوار" !!! وقد جاء في متن البيان "وإنّه النضال الحقيقيّ الذي يُجتثّ على أياديه إخوان الظلام ودعاة (كتبوها بتاء مفتوحة) الرجعيّة". لقد، والله، ضحكت كثيرا وأنا أقرأ مثل هذه الركاكة.. لو كان السنوار تونسيا لوجد منهم نظير ما وجده، هناك في غزّة، من جيش العدوّ.
هل رأيت، بربّك، لصوصية بمثل هذه "البهامة" الوقحة ؟
هل تريد منّي أن أكون لصّا مثل هؤلاء؟
طوفان الأقصى كشف الألاعيب كلّها. كان عليّ أن أختار بين السنوار الذي جاءته الشهادة جالسا على عرشه وبين دعيّ وطديّ قادم من البورجوازية الصغرى ليحرّرني من البرجوازية الكبرى..
وقد اخترت، أنا، الشهداء على الأدعياء.
تاريخ أول نشر 2024/11/14