الكتاب الثاني لعز الدين جميل بعد "أسوار وأقمار" ... الكتاب الأول روايته عن نفسه ... والكتاب الثاني روايته عن المرأة النهضاوية وعن الاسرة النهضاوية .... لست أديبا ولا ناقدا لأعلق من تلك الزوايا على الرواية .... لا أعلم بالضبط حجم تدخل قلم عزالدين جميل في نحت الرواية ... وإن كان حدسي يوصلني الى بعض التمييز بين الوقائع كما هي والحبك الذي يلجأ إليه الكاتب أحيانا لشحن روايته بما يدعم أو يعمق أو يزين .... لكنني أتوقع أنه يأخذ من وقائع أخرى لبناء صورة متكاملة عما حصل .
قد تكون الرواية أفضل عمل كشف جرائم النظام السابق - الذي يعمل من بقي من أعوانه للعودة مجددا، وقد استطاعوا الافلات من العقاب، ودون حتى أن يعتذروا عن جرائمهم. لكن كشف وجه البطولة و الشرف والسمو والرفعة للاسلاميات والاسلاميين فيها أكبر وأهم.
من أي طينة هؤلاء النهضاويات ... والنهضاويين؟ كيف استطاعوا الصمود أمام تلك الوحشية التي تحول فيها تونسيون الى وحوش ضارية ... وارتكبوا في اخواتهم واخوانهم التونسيين كل تلك الفضاعات من التعذيب الجسدي الوحشي الى التحرش والاغتصاب الى التعذيب النفسي والتدمير الممنهج للاسر واغتصاب الطفولة ماديا ومعنويا ؟ فضاعات لا يغني في شيئ تلخيصها وقد برع الكاتب في تصويرها وتتبعها على سطح الأرض وفي أعماق الأنفس.
من أي طينة هؤلاء النهضاويات ... والنهضاويين ؟ كيف لم تخرج من بينهم الموجات التكفيرية والجهادية كما حصل في سجون عبد الناصر والأسد والقذافي و عسكر الجزائر ؟
أليس ملفتا للانتباه أنه أمام كل تلك الفضاعات استمسكت الحركة بنهجها السلمي وحافظت على نقاوة صفها وتخلصت بسرعة من كل ردات الفعل الطبيعية التي حدثت من القلة؟
أليس ملفتا للانتباه أن التيار الجهادي لم يكن انشقاقا عن النهضة كما حصل في غيرها من البلدان وإنما نشأ كرد فعل قصووي مجتمعي عن فضاعات ما ارتكب في حق النهضاويين والبلاد عامة؟
يعج الكتاب بأسماء جلاوزة التعذيب الذين مارسوا كل الموبقات والفواحش والجرائم ... ولكنني قابلت الكثير من النهضاويين الذين حدثوني عن لقاءاتهم مع هؤلاء وشرب القهوة والشاي معهم بل وحتى مساعدة بعضهم ماديا.
كان طبيعيا أن لا يذهب كل ذلك الصمود سدى ... وأن يكون خميرة الثورة ... لا بل إنه خميرة النهوض الجديد - حتى وإن بدا أن الثورة المضادة أتت عليه... لا يمكن لكل ذلك الصمود وتلك الطهورية وذلك الاباء والنقاء أن يذهب سدى .... "وما كان الله ليضيع إيمانكم" ...
لذلك أقول للنهضاويين داخل الحزب وخارجه .... الذين ابتعدوا مغاضبين والذين خرجوا يبحثون عن أطر أفضل .... الذين طلقوا التنظم والتحزب والذين اختاروا مجالات العمل البعيدة عن السياسة .... ليس لكم ما تخجلون منه وما تأسفون عليه ... إن كنتم أخطأتم – وقد أخطأتم – فالاخطاء في التاريخ الانساني هي مقدمات البناء ... وإن كان تطاول بكم السير فالمطالب النفيسة تتعب الاجسام ... كنتم حريصين منذ انبعاثكم على نهضة حضارية وليس على مكاسب حزبية، وتلك النهضة تحتاج من التراكم والزمن والاجيال الكثير ... وقد رضيتم أن تكونوا جيلا من اجيال التحرير والتحرر.
كان قدركم أن تخوضوا أشرف ثلاث معارك في هذا الوطن العزيز وهي معارك الهوية والحرية والديمقراطية وكفى بذلك شرفا وتحققا لمعنى الاستخلاف عن الله في بلدكم تونس.
لا زلتم تقودون ركب الجهاد النبيل في هذا الوطن العزيز ... وطبيعي أن تزلزلوا " زلزالا شديدا" ... وأن يظهر فيكم ما يظهر في النفس الأمارة واللوامة .... لكن معدنكم أصفى من أن يصدأ أو يلوث ... بل إنه يتطهر ويزداد صفاء ولمعانا بالصهر ...
لو لم تكونوا تتقدمون ما كانت المعارك شرسة معكم ... في معركة الهوية نالكم الأذى وفي معركة الحرية كان الأذى أشد وفي معركة الديمقراطية يزداد اشتدادا ... لأنكم تتقدمون ... ولو كانت أخطاؤكم أكبر من إنجازاتكم ما احتاجوا لكل تلك "الاسلحة" ضدكم.
بدأتم بالاصلاح و في عز معركة النظام معكم دعوتم للمصالحة ولا زلتم تدعون لذلك .... لخير الوطن والمواطن.
بدأتم بالاسلام هاديا ومرجعا فلا تبغوا عنه سبيلا ... ولا ترهبنكم مساوماتهم ... ولا تشككنكم في منطلقاتكم ... نعم للتجديد ... نعم للتجدد ... ولكن بدون تبديد وانسلاخ ...
لا تيأسوا من شعبكم .... وحذاري أن تنساقوا وراء من يسبونه .... فليس لكم شعب آخر... فمنه ولدتم وفيه نشأتم .... عليكم أن تكتشفوا طبيعته فتتعاملوا معه بحسبها ... والخير فيه كثير وعميم ... ألستم أنتم منه ؟
والرواية تعج بالصور التي تبدو متناقضة للشعب في خدمته للظالم وانسياقه وراء أراجيفه وفي مساعدته وفي لامبالاته ... ولكن مقابل ذلك وجدت صور التضامن والشهامة والنجدة والرحمة بل والمخاطرة حتى عند الجلادين والسجانين .... وقد ادمعت عيناي مرتين وانا اقرأ الرواية إحداها لنائبة مديرة سجن النساء الفضة العنيفة التي لان قلبها القاسي أمام طلب الفتاة القاصرة في سجن النساء من أمها أن تجلب لها المرة القادمة "قلاص" فجلبته للفتاة بعد الزيارة وهي تقول : "ويني هاك الفرخة؟ شد هاك القلاص حممت لي قلبي هالسخطة، آش تعمل هنا في هالعمرهذا؟علاه هكة؟".
هذه بعض خواطر أوحت بها الرواية التي أرجو أن تأخذ حضها من الانتشار وأن تقرأ لا بخلفية أدب السجون المأساوي بل بأدب الجهاد الملحمي.
تاريخ أول نشر 2022/8/5