استقبل اليوم الرئيس السنغالي ماكي سال المنتهية ولايته، الرئيس المنتخب في انتخابات 25 مارس 2024 بشير جوماي، ورئيس حزب "الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة" المعروف اختصاراً بـ"باستيف" عثمان سونكو.
يعتبر عثمان سونكو القائد الفعلي للحراك السياسي الذي توج بعد سنوات من المعارضة والتضحيات بنصر يوم 25 مارس. عشر سنوات على الأقل من المعارضة المدنية، ووجهت بكل وسائل القمع والتنكيل ووصلت حد إطلاق الرصاص على المتظاهرين حيث مات خلال السنوات الماضية حوالي 60 سنغاليا من أعضاء وأنصار الحراك، واعتقل حوالي 2000، واستعمل الحكم كل ما بيده من سلطة من أجل وأد الحركة. ويكفي أن نشير إلى أن عثمان سونكو تم إطلاق سراحه قبل موعد الانتخابات بـ 15 يوما، ومنع من الترشح للانتخابات.
لكن عثمان كان ذكيا فقدم عوضا عنه صديقه والرجل الثاني في الحزب بشير جوماي وأدارا معا حملة انتخابية وقدما برنامجا انتخابيا قادهما لفوز على تحالف الحزب الحاكم.
واليوم يدخل الاثنان القصر الرئاسي لتسلم الحكم من الرئيس ماكي سالي، الذي سجنهما وقتل وعذب انصارهما، ولفقت عصابته لعثمان سونكو لتحطيمه تهمة اغتصاب إمرأة، ولكنه واجه كل ذلك بشجاعة، وساعده على ذلك سيرته النظيفة ونزاهته خلال عشرية من النضال الديمقراطي حيث وقف شوكة في حلوق عصابات النهب للمال العام.
ما يميز حركة عثمان سونكو وحزبه باستيف، هو أنه كان حزب الشباب. الشباب الافريقاني الذي كان مصمما على الخروج من التبعية لفرنسا ومن كل قوى الهيمنة الغربية. هذه الحركة الشبابية التي تخترق الآن الفضاء الافريقي محيية الروح الافريقانية التي سادت في خمسينات وستينات القرن الماضي. لقد عادت هذه الروح من جديد ملتحمة بالقاعدة الثقافية التي تميز غالبية الدول الافريقية المرتكزة على الإسلام عقيدة وثقافة وحضارة، في اختلاف عن الافريقانية الماضية التي كانت متأثرة غالبا بالفكر اليساري.
الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من الحدث السنغالي، وهو ما يغلب أيضا على قيادات الدول الافريقية المتمردة على المستعمر القديم وعلى الهيمنة الأمريكية هو أنها قيادات شابة وقاعدة أنصارها الصلبة شبابية بالأساس.
الدرس الثاني هو أنه لا نضال بدون تقديم تضحيات. يبدو درسا بديهيا ولا يستحق الذكر، ولكنه مع ذلك أحيانا لا يبدو بديهيا، حيث يخيل لمن قدم تضحيات في يوم ما، أنه قد أدى ما عليه، وهو يتحرك الآن بمنطق البحث عن الثمرة بدون معاناة الزرع والفلح والسقي. وهو سلوك يمليه عامل الزمن والسن. لذلك فإن دورات النضال تقتضي ضرورة تجديدا في الفاعلين لأن البذل والتضحية والطموح والتحدي إنما يقوم على أكتاف الشباب لا على غيرهم وتلك سنة الحياة.
الدرس الثالث الذي يكشف عن وجهة نظر مهمة جدا هو ممارسة النضال السياسي بأفق مبدئي ولكن وفق الممكن المتاح من أدوات النضال المدني الذي توفره الدولة أو الذي يمكن فرضه على النظام السياسي. النظام السياسي السنغالي يخضع لهيمنة فرنسا التي تكاد تشرف على كل شيئ فيه. والنخب المهيمنة نخب فرنكفونية يعقوبية تحكم قبضتها على الدولة العميقة بقطاعاتها الحساسة في الجيش والأمن والإدارة والاقتصاد والقضاء والثقافة والاعلام. ومع ذلك فإن عثمان سونكو وحزبه باستيف تمسكوا بإصرار بالنضال المدني وصارعوا الأمن والقضاء التابع وغيرهما من القطاعات بأدوات النضال المدني وبالإصرار على عدم ترك الساحة فارغة بدعوى المقاطعة وإنما استغلال أي ثغرة يوفرها القانون ولو كان جائرا ظالما.
الدرس الرابع هو القدرة على ممارسة التكتيك بدون المس بالإطار المبدئي والقيمي للحركة، بما يسمح بإدارة الصراع والحفاظ على موازين قوى إيجابية لصالح التغيير، وهنا يأتي قرار عثمان سونكو بتقديم صديقه بشير جوماي للانتخابات الرئاسية بشكل فاجأ على ما يبدو النظام ولم يستطع وضع العراقيل أمام ترشحه.
الدرس الخامس و هو المسار الذي يدخلان فيه الآن والذي يتعلق بكيفية التعامل مع الدولة العميقة ومع النفوذ الفرنسي. من خلال التصريحات الأولية وحتى من خلال برنامج الحملة الانتخابية يبدو عثمان سونكو حذرا وواقعيا، ودون التخلي عن المطلب الأساسي المتعلق باستعادة سيادة السنغال الكاملة على خيراته واستقلالية قراره وعلاقاته وبسط العدل بين مواطنيه وفئاته. وهي المعادلة الصعبة التي لا شك أنهم سيواجهون فيها مواقف حرجة وخاصة المواءمة بين طموحات الشباب ومطالبهم وضرورات التدرج في مواجهة نظام سياسي تابع منغرس في كل مفاصل الدولة والمجتمع.
تشهد إفريقيا استئناف "حركة التحرر " من الهيمنة الغربية تقودها قيادات شابة تحتاج منا المتابعة والاستلهام.
صحيح أن رياح الجنوب حارة وجافة ... لكنها الأفضل للمساعدة على جريان الدم في كامل عروق الجسم .