كتب المؤرخ بشير موسى نافع مقالا مهما قدم فيه تحليلا مرفوقا بمعطيات مفصلية حول المنظمة و مَحوره حول فكرة الدولة الموازية التي تعتبر العمود الفقري لمنهج المنظمة منذ نشأتها .
تعود نشأة المنظمة إلى سنوات التأسيس نفسها للحركات الاسلامية العربية في موجتها الثانية أي سنة 1968 . لا بل إن منهج الجماعة و طرق عملها لم تختلف كثيرا عن الحركات الاسلامية العربية . و معلوم أن فتح الله غولن كان متأثرا بسيد قطب ودائم القراءة لظلاله حتى و إن حاوره في بعض أفكاره التي رأى أنها تتسم بالحدة وخاصة في انعكاساتها العملية سياسيا واجتماعيا . لكن جوهر الفكرة الحركية القائمة على الشمولية وما أسميه بـ"الاستيعابية " بمعنى أن مهمة الحركة استيعاب المجتمع والدولة داخلها ، هذه الفكرة نجدها هي نفسها تقود عقلية غولن و بها قاد حركته. ويبدو أنه حدد مبكرا منهجه في ذالك والقائم على التغلغل في الدولة عن طريق اختراقها والتغلغل في المجتمع عن طريق التركيز على التعليم والمنظمات الخدمية.
لكن غولن انفرد مبكرا بإيلاء أهمية كبيرة للجانب الاقتصادي حيث يذكر فريد الأنصاري في كتابه حول غولن كيف أن من جملة الكوكبة الأولى لمؤسسي الجماعة ستة تجار. يبدو أن غولن وهؤلاء ركزوا كثيرا على المجال الاقتصادي ليس فقط كمورد مادي لتمويل الجماعة وإنما كقوة ضاربة للجماعة لا غنى عنها لإنجاح التغلغل في الدولة وفي المجتمع .
اتخذت الجماعة من شعار سعيد النورسي " اعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة " شعارا لممارسة السياسة بطريقة مختلفة . قائمة على مهادنة السلطة الحاكمة " العلمانية " ومعاداة الحكومات " الاسلامية " المتوالية بقيادة أربكان منذ حكومته الأولى عام 1971.
وجدت الأحزاب العلمانية المختلفة في ذلك فرصة لتعزيز أصواتها في الانتخابات مقابل غض الطرف عن الجماعة ونشاطاتها . لكن المنعطف الكبير كان بعد انقلاب سنة 1980 وخاصة مع حكومة تورقوت اوزال الذي وجدت فيه الجماعة سندا كبيرا وصل الى حد خروجه في الساعة 12 ليلا لإلقاء بيان للدفاع عن غولن لما قررت أجهزة الدولة إلقاء القبض عليه وإعلان الحرب على جماعته . وفي عهده تمددت الجماعة تمددا رهيبا في مجال التعليم داخليا وخارجيا وفي مجال الاقتصاد و الاعلام . والأهم من ذلك وهو ما كشفت عنه التحقيقات تمددا كبيرا داخل الدولة جيشا وأمنا وقضاء.
في جميع مراحل الجماعة كانت العلاقة مع حزب نجم الدين أربكان بأسمائه المختلفة غير ودية وأحيانا عدائية . كان أربكان يتجنب مواجهته ويتجاهل هجوماته ويرفض حتى ملاقاته . و كان أبناء حزبه بما فيهم القادة يستغربون هذا السلوك من أربكان ويجدون صعوبة في تفهم رفض أربكان التنسيق مع حركة إسلامية. وربما حدثتهم أنفسهم أن في الأمر غيرة بين الزعماء . لكن أربكان كان لا يشرح أسبابه وإنما يكتفي بالكلام العام الذي لا يغلق بابا ولا يفتحه . سئل مرة لماذا لا تلتقي مع جولن قال نحن مسلمون ونلتقي كل يوم خمس مرات في الصلاة.
تقديري الآن - وهو ما يقوله بعض منتسبي حزب أربكان سابقا - أن أربكان وقد كان رئيس وزراء 3 مرات قد أتيح له الاطلاع على بعض أسرار الدولة التركية ومنها ربما ما يتعلق بغولن وهو كرجل دولة عليه واجب التحفظ، كما أن خطورة ما وصل إلى يديه يجعله حذرا من استعماله مخافة أن يرتد عليه. فأن تكشف أن هذه المنظمة مخترقة و مستعملة في إطار مخطط ثلاثي الأضلاع ( تركي - أمريكي - صهيوني ) فذلك لعب بالنار .
كما أن الهجومات الكبيرة والاتهامات المغلظة التي وجهها أربكان وأنصاره إلى حزب العدالة والتنمية ورجب طيب أردغان بعد استلامه الحكم واعتماده على هذه المنظمة ربما يفسر جزءا من ذلك اللغز.
يذكر غولن في مقابلته الصحفية مع قناة العربية كيف أن أردغان بعد لقاءهما الأول في أمريكا ودعوته له للرجوع إلى تركيا قال لمرافقه أنه سيقضي على غولن وجماعته برغم أنها كانت السند الرئيسي له . فهل أن أردغان دخل مع الجماعة مغامرة محسوبة وأنه كان يعرف نواياها ويعرف قوتها وكان مضطرا للتعاون معها في إطار ترتيب أولوياته في تصفية معاقل العلمانية التركية اليعقوبية المتطرفة والتمدد الصهيوأمريكي في الدولة التركية ؟ ليس غريبا عن شخصية أردغان الجسورة فهو ابن حي قاسم باشا الشعبي كما قال عن نفسه عندما جاءه "دجان" مالك أحد إمبراطوريات المال والأعمال التركية يساومه.
لنرجع إلى لب الموضوع ونسأل هل أن القوة التي وصلت إليها منظمة غولن من حيث التمدد والتغلغل داخل الدولة إلى حد إنشاء كيان مواز حاضر في كل مفصل واضع يده على المواضع الحساسة للدولة التركية دليل على "شطارتها" أو على ضعف الدولة التركية أو على المساندة والرعاية المشبوهة التي تلقتها من داخل تركيا وخارجها.
الحقيقة أن هذا السؤال كا يقلقني سنوات طوال من حيث أنه لا مجال للحديث عن شطارة في مجال اختراق الدولة من طرف منظمة ذات منهج شمولي. الانقلابات ممكنة تاريخيا وإن كانت في زمننا الحاضر أصبحت تقارب المستحيل، لكن اختراق الدولة بتكوين كيان مواز لها داخلها لا يمكن أن تنجح مطلقا، وكل محاولات الحركات المعارضة بما فيها الاسلامية في ذلك فشلت في المهد. أما استغلال ضعف الدولة فهذا وإن كان ممكنا نظريا إلا أن ما يتطلبه اختراق الدولة من وقت للمسك بجهاز التحكم والسيطرة في أجهزتها لا يسمح بذلك .
من الممكن استغلال ضعف الدولة وتنازع أجهزتها - وقد قيل أن هناك صراعا بين أجهزة الدولة المخابراتية والأمنية التركية - و لكنه أيضا لن يسمح بعملية تغلغل تحتاج الكثير من الوقت برغم عمليات التسريع .
بقي الاحتمال الثالث و هو الاحتمال الأقرب لتفسير مسار تطور هذه المنظمة إلى أن أصبحت قوة ضاربة .
ليس في الأمر تفسيرا تآمريا وإنما هو منطق الأشياء يقود لذلك الاستنتاج. يبدو أنه تم رصد المنظمة مبكرا وتم رعايتها خاصة بعد انقلاب سنة 1980 حيث كان من المفروض أن تلاقي المنظمة مصير حزب السلامة الوطني ولكنها "نجت" من كل ذلك بل كان غولن "يتبجح" بأنه لن يمس وذلك ما حصل بالفعل .
وكان مسار المنظمة ومصيرها يتحرك بشكل مواز: غض للطرف ومساعدة على التمدد والتغلغل في الدولة والمجتمع وفي نفس الوقت تمدد وتغلغل داخلها وفق تخطيط استراتيجي ليس غريبا عن استراتيجيات أجهزة الإستخبارات الكبرى ودولها وخاصة الأمريكية والصهيونية وهو أيضا ليس غريبا لأنه يناسب حجم تركيا التاريخي والحاضر والمستقبل وموقعها الحيوي والجيوسياسي.
ولك ان تستنتج ذلك من خلال نقطة اندلاع الخلاف الرئيسية بين غولن و أردغان، فقد طالب غولن بجرأة أن يكون رئيس الاستخبارات منهم و رفض أردغان ذلك بإصرار .
إن رئاسة الاستخبارات التركية ليست شأنا تركيا إنها مسألة "أمن العالم"، إنها إحدى خزائن أسرار العالم ولا يمكن أن تسلم لأي كان . هنا ليس للصهيونية خيار غير الحرب و ليس لـ "السي أي إيه" غير الدفع بالمنظمة للأقصى .
من الطريف الإشارة إلى أن منظمة غولن اتبعت سيرة التغلغل اليهودي في الخلافة العثمانية وكأنها تستنسخه .... فهل أن اليهود من خلالها أرادوا استعادة سيرتهم الأولى مع تركيا و لكنهم وجدوا الأحفاد غير الأجداد ؟
وأخيرا هل على الذين اعتمدوا نفس أسلوب التغلغل في الدولة وتشكيل كيان مواز داخلها أن يحمدوا الله أن الدولة أفشلت "محاولاتهم" مبكرا وإلا لعرضوا نفسهم إلى ما هو أشد وأنكى من التغلغل داخلهم واستعمالهم ضدا على أهدافهم التي لأجلها تغلغلوا ولحولتهم إلى خنجر مسموم في خاصرة أوطانهم وأمتهم ؟
وحتى دون ذلك فإن خبرة الأعداء في "التغلغل" داخل الجماعات والمنظمات والدول طويلة وثرية وقدرتهم في "التوظيف" و"الاستعمال" من خلال "زرع" القيادات الموالية أو المورطة و"اختطاف" الزعامات بشتى فنون الإطراء و الإغراء والتوريط كبيرة . وهم يتحركون بوسائل وآليات ومنظمات وإمكانيات متوازية ومتعارضة مادية ومعنوية وبمراكز رصد وتحليل وتخطيط وتوجيه تعمل بأريحية و"شفافية" خارجية ولكن يقودها عقل ناظم حي ويقظ؟
تاريخ أول نشر 2017/7/27