مستقطع من سيرة ذاتية لصابر (البشير بن لطوفة)، حرص فيه مؤلفه على تتبع نزوعات النفس وخطرات القلب وانشغالات العقل وأشواق الروح، وليس فقط ما جاسته الخطى وعبده السير ساعات واياما وليالي وشهورا وسنين ... لحظات التوجس، ومواقف المغامرة، وأحداث التحدي، وأزمان الصبر والمصابرة ... التطواح بين الوقوف على مواطن العزة والشموخ والإباء، من عقيدة دافعة ومنبت ومحضن حام، و مصارعة حالات الذلة والخسة والظلم والعدوان، وكل ما يهين الكرامة ويعتدي على إنسانية الانسان .... في كل هذا وذاك، تجد الكاتب حاضرا بذهن وقاد، و شاعرية طافحة (وهو شاعر) ... حريص على تسجيل كل شيئ، لا تكاد تفلت منه الوقائع مهما صغرت، ولا حتى حديث النفس .... يكتب وكأنه ينقل إلينا وقائع شريط مصور بتقنية حديثة.
لقد نال السجن بمقدماته وخاتمته الطويلة نصيب الأسد في الرواية، فكانما كان الخروج منه لا يعدو ان يكون دخولا إليه من باب آخر ... المراقبة الادارية، القوادة (البصاصون باللهجة المصرية)،... وكانت فاصلة الغربة الحقيقية قصيرة، فكأنما أراد أن يعطي للغربة معناها غير المادي .... فالغربة في داخل الوطن أشد وأقسى ....
من جملة ما شدني في الرواية "روح الاعتدال" فيها، فمع كل فظاعة ما تعرض له صابر وصحبه، ومع كل الهوان .... وما يبدو ظاهرا من مشاركة الشعب في الجريمة ولو بشكل سلبي، من خلال اللامبالاة والسكوت فضلا عن عدم المناصرة .. إلا انه لم يعمم، وقد وجد الرجال من شعبه الذين تجشموا المخاطرة بتقديم يد المساعدة التي سترمي بهم وراء القضبان لو كشفت، وغيرهم ممن حاول بما يقدر التعاطف والمواساة، وغيرهم ممن رفض المشاركة في المقاطعة والاذلال .... لا بل إنه كان قادرا على عدم التعميم حتى مع أجهزة القمع المكلفة باستئصال شأفة الاسلاميين إن لم يكن ماديا فنفسيا .. فقد كان بينهم الرجال والاحرار وذوو المروءة والشهامة. لم تعمه مرارة الظلم عن الحقيقة، فسجلها منوها بها، ومستخلصا منها درسا في التواضع، والاعتراف بالفضل لأهله، وملتمسا فيها العذر لأهل الاعذار.
ويبقى أشد ما يلفت الانتباه ويثير الاعجاب، روح العزة والشموخ والايمان العميق بالقضاء والقدر، وروح التحدي والصبر والمصابرة الذي عليه صابر وصحبه ... كيف "انتزعوا من شدق الافاعي" بعض حقوقهم، وكيف رفضوا الذل والهوان، وكيف اكتسبوا حقهم في العمل رغما عن أنف الظالم واعوانه، وكيف تأقلموا مع وضع مرعب يترصدهم فيه الظالم في كل ساعة من ليل ونهار ... لقد سجلوا ملحمة وخطوا تاريخا ناصعا يكتب بماء الذهب .... كان يمكن ان "يموتوا" أحياء، وكان يمكن أن يتحولوا إلى قنابل تذهب بالوطن بعيدا في الفتن والفوضى ... ولكنهم أجابوا تحدي استئصالهم بتحدي ثباتهم على إيمانهم العميق بدينهم وبوطنهم وبشعبهم، واستمسكوا بمذهب ابن آدم الأول .... وكانوا من الفائزبن ...
أكتب هذه الكلمات ونحن نواجه انقلابا على ثورة استنبتها صابر وصحبه بارواحهم ودمائهم ودموعهم وعرقهم وآهاتهم .... وبعنادهم وأشواقهم وطموحهم واستمساكهم بالحق المبين .... ورعوها بكل ما أوتوا وبذلوا لها أكثر مما كسبوا منها ... ولكنهم لم يتخلوا عنها ولم يستبدلوها ... ولن يستبدلوها.
ما زرعه صابر وصحبه لن يذبل نبته، ولن تنكسر أغصانه، ولن يجف ورقه .... وسيؤتي أكله كل حين بما يحتاجه الوطن، وتحتاجه الرسالة التي بها آمنوا وعليها اجتمعوا ....
أكتب هذه الخاطرة من وحي الرواية وليس تقديما لها ... لأنني أريد للقارئ ان يقرأها كما قرأتها أنا ليكتشفها بنفسه، وليعيش أحداثها من دون أفكار مسبقة أو عرض قد يكون مخلا ...
شكر للأستاذ بشير بنلطوفة الذي اتحفني بها ومزيدا من الكتابة والتوثيق ...
ننتظر ديوان شعره ....
ملاحظة : النص الذي كتبه في الرواية بلهجة عوينية مرزوقية يعد وثيقة مهمة وهو إضافة طريفة في الرواية.