"سبع سنوات عجاف يأكلن ما قدمتهم لهن"...
هكذا يبدو وجه من وجوه صورة الربيع التونسي ...
دماء الشهداء التي روت الأرض ، والأمل الذي تفجر ، والحرية التي افتكت، والكرامة التي استردت ... كل ذلك تبتلعه "السبع العجاف" بنهم، و بحرص شديد على جعل ما حصل مجرد قوس انفتح ولا بد أن يغلق، و خطأ وقع ولا بد من التراجع عنه ، لا بل ويكفر عنه.
لا بد للمجتمع أن يعتذر للملإ عن "طيش" شهدائه ورعونة شبابه وغوغائية دهمائه وعدم مسؤولية بعض نخبه وتسببهم في الفوضى و تهديدهم للسلم الاجتماعي و للأمن العام و إثارتهم للأحقاد ونزعاتهم الاستئصالية.
وفي طرفة عين، تحول الذين بكوا ليلة الخامس عشر ندما واعترافا بالذنب إلى حكماء ومنظرين للثورة بنقض عراها عروة عروة ، طمسا لحقائقها وإهدارا لحق شهدائها وجرحاها وتشنيعا على طلائعها و تشكيكا في مطالبها .
وفي طرفة عين، رجع كل الى ما كان عليه ... رجع رجال المهمات القذرة الى سالف مهماتهم في الاعلام والثقافة والمال والاعمال و في مفاصل الدولة و الادارة ... رجعوا سريعا بفضل جرأة وشجاعة وذكاء الفئة التي بقيت منهم على رأس الدولة، واستطاعت أن تتحكم في الأوضاع، وتدير اللعبة بإيهام مسايرة الثورة علنيا، وإفراغها من مضمونها عمليا. كما رجعوا أيضا بسبب ضعف نخبة الثورة، وهزال تكوينها، وسقوطها في وهم التنازع عن استلام سلطة لم تنتزع بعد من مخالب ماسكيها.
وأهم من ذلك، أن ذلك الملأ الذي بقي ماسكا بغرفة "التحكم و السيطرة" في البلاد، استطاع أن يخضع جزء من " نخبة الثورة " رغبا ورهبا، ليحولهم من ثوار يستهدفون " تغيير نظام "، إلى مصلحين " يرممون ما انخرم " من ذات النظام، الذي قامت الثورة من أجل تغييره. فتحول جزء من قادة التغيير بفعل الضغوط إلى " حكماء " يعقلنون سلوك النكوص و التراجع ، و يبحثون عن "توافق" مع المنظومة القديمة، بعد أن دافعت سنين عن استحالة التوافق مع نظام فاسد وأيد تلطخت بدماء الشهداء وأخرى نهبت المال العام . وهو توافق ربما أبعد شبح الدماء والسجون والمعتقلات والتدخل الخارجي لوأد الإصلاحات، وعودة الأمور إلى سالف العهد. ولكنه في المقابل أجهض حلما باسترداد الحقوق وإبعاد الظلمة ليفرض " صلح إكراه " بين الضحية والجلاد، و بين الشعب وناهبيه. صلحا شرط استمراره وأد الحقيقة وغمط الحقوق وتزييف التاريخ، صلحا سيفقد المجتمع الثقة في جزء آخر من نخبته التي استدرجها الملأ للأكل من موائد السحت وللإنغماس في المشاركة في الاستمتاع بمنافع الريع .
توافق يغري قادته الشعب به بديلا عن أمثلة الفوضى التي أعادت الخوف و النهب و دمرت أجهزة الدولة ، أو أعادت أنظمة الاستبداد الدموي لتعيد السجون والمعتقلات والتصفية والاستئصال . ليقولوا لهم بلسان الحال : من أراد الثورة فلينتظر الفوضى، ومن أراد الأمن فليقبل بتلك الدولة التي ثار عليها. عليه أن يقبل بها و يرضى بما يسمح به كرمها من عطاياها.
هكذا هي النخبة تبرر للناس عجزها بتمجيد أهون الشرين ،و تفرض عليهم خياراتها بالاستعانة بمن كانت بالامس تناصبهم العداء، لتحولهم اليوم الى مصلحين و شركاء ، تستميت في إخفاء عوراتهم و التهوين من سقطاتهم .
وشيئا فشيئا تبتعد تلك النخبة عن شركائها في الثورة، وتقترب أكثر فأكثر بملإ الثورة المضادة . تعلن نفاد صبرها من رفاق طريق الأمس، وتبتهج بحكمة وتعقل رفاق اليوم. ويقودها "منطق الدولة" الى استحلال ما حرمت وتبرير ما عارضت ، إلى السكوت عن الخيانات والتغاضي عن السرقات و المشاركة في المؤامرات و الخضوع للإملاءات . يتم كل ذلك بتدرج يصدق فيها الحديث الشريف : " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء حتى يصير القلب أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا". لا بل إنها تزين المنكر و تحوله إلى مصلحة وطنية و تنكر المعروف إذ تحوله إلى اعتداء على أمن الدولة وسيادة الوطن. هكذا كانت صفحات التاريخ السود حافلة بأمثلة من هؤلاء الذين تحولوا من قادة التحرير والتحرر إلى قادة التسلط والاستعباد ، ولم يستنكفوا عن قمع رفاق الأمس وقهر الشعب الذي خرج يهتف بحياتهم يوما ما. والمعاذير والمبررات لا تنتهي . وكم هو عجيب أن تتحول تلك النفوس التي كانت تستعظم الجرم الصغير إلى مهونة من الإجرام الكبير وهل هناك إجرام أكبر من القتل والتعذيب و من نهب المال العام .
هل كان المرء يتصور أن يقبل من أفنوا جل أعمارهم في الدفاع عن الحرية و حقوق الإنسان، ومن كانوا في يوم ما معرضون للإعدام، هل يتصور المرء أن يراهم يوما ما مبررين للقتل بالشبهة، وأن يعود التعذيب والاغتصاب للمعتقلين والمسجونين في عهدهم بدعوى محاربة الإرهاب ولا يحركون ساكنا، وربما اعتذروا لما يحصل بأعذار واهية ؟
وهل يتصور أن يبرر غيرهم المجازر الدموية في بلدان أخرى وسحق الجموع الغفيرة بالبراميل المتفجرة في صورة من الوحشية لم يكن المرء يتوقع حدوثها في هذا الزمان فضلا عن أن يبرر وقوعها أو يساهم في المحاولات المفضوحة بالتشكيك فيها بدعوى المصالح القومية الكبرى ؟
مالذي يبرر أن تهوي النخبة لهذه الأودية السحيقة من التردي؟ كيف يمكن لها أن تبرر خيانتها لنضالاتها وللقيم التي دافعت عنها وظلمت في سبيلها ؟
إن نخبة تعجز عن حل خلافاتها لتجد نفسها في أحضان أعدائها تستنصر بهم على جزء منها قد أعلنت سقوطها الأخلاقي. وإن نخبة تعجز عن تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة وتتحول إلى مبرر و مسوق لحلول خصومها التي ثارت عليهم فقد أعلنت فشلها كبديل ولن تفلح تكتيكاتها التي هي في الحقيقة استدراج للوقوع في مصيدة أعدائها.
ماذا لو كانت هذه السبع العجاف استكمال إعلان إفلاس الوجه الأخر من النظام بالمعنى العام ؟ فليست النخبة المعارضة غير الوجه الأخر لعملة النظام الذي ساد و لا يزال يسود رغم الثورة التي قامت عليه . و قد قال فرويد : "إنك لا تخاصم شخصا مدة طويلة إلا شابهته ".
لقد أكلت هذه السبع العجاف ما قدمه الشعب من نضالات و تضحيات و ما استصفاه من نخب و رجالات . و لم يبق إلا القليل الذي اختزنه شعبنا تحصينا من أجل أن يسلم الأمانة لطلائع متخففة من وحل الماضي و متطهرة من سقطاته .
" ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون".