من المعلوم في تجارب الشعوب عامة وفي تجربة القرن العشرين، أن الفاشيات في الغرب والشرق نشأت في ظل انهيار النظام السياسي، وتآكل النخبة، ونفض الشعب يديه منها، واستبشاره بكل قادم جديد ليخلفها، خاصة اذا رفع شعار حكم الشعب وأدان الأحزاب والنخب.
تبدأ الحرب على الديمقراطية التمثيلية القائمة، ويتم التبشير بديمقراطية مباشرة موهومة لم تطبق يوما من الأيام، لتستقر إلى ديكتاتورية زعيم حوّل النخبة المتحالفة معه الى أداة لسلطته، أو ديكتاتورية نخبة جديدة تستعمل الديمقراطية المباشرة واجهة لتحكم من ورائها بقبضتها على المجتمع .
الأمر ليس بعيدا عن توجه عالمي عام في هذه السنين المتأخرة من عودة الشعبوية / الفاشية بنسخة القرن الجديد طبعا ودون تغير في جوهرها .
قد يكون المنتظم الحزبي الحالي فقد القدرة على تجديد نفسه، و أنه نسخة مكررة للفشل المتواصل حتى في أحزابه الناشئة ... لكن الحل يكون في إنقاذ الحياة السياسية عبر تجديد ميكانيزمات النظام التمثيلي الديمقراطي لا في انهياره .
كنت أتمنى لو أن ما اصطلح على تسميتهم قوى الثورة نظروا لواجباتهم الوطنية من هذه الزاوية .... وأدركوا أنه إن لم يكونوا في الموعد فستلحق بهم جريرة المصير المظلم الذي قد تتردى فيه البلاد، وستلحقهم لعنة الشجر والحجر والأجيال الحاضرة واللاحقة .
هناك دعوات شعبوية متحفزة تجمع الجموع وتحشد الاتباع وتقتنص الفرص ... وقد يكون وراءها من يغذيها معنويا وماديا .... لكن مددها الحقيقي هو من فشل النخبة في تحمل مسؤوليتها وادراك اللحظة والارتفاع بالتزاماتها تجاه الوطن والمواطن.
لا زلت مقتنعا بأن فشل قوى الثورة في تحقيق تحالف بينهم ينبئ عن أنهم دون مستوى المرحلة .... كلهم مسؤولون ... حزب حركة النهضة أولهم .... لنكن صرحاء .... النهضة تعاني فقدان البوصلة، وفقدان الاجماع، وهدر الطاقات وتشتتها، وهي التي تزخر بأكبر شريحة من شباب البلد المتحزب ورجال المرحلة كما وكيفا.
النهضة الان تبرر فشلها بما تسميه "رفض الاخرين" التحالف معها .... وهي أسهل حجة، ان ترمي بعجزك على الآخرين، متناسية أن فشلها في إقناع الآخرين دليل عجز لا دليل قوة .... فشلها في التوصل إلى حلول تقي البلاد شر الشعبوية والفاشية دليل على ضعفها وليس قوتها .
ويلحق بالأحزاب قوى المجتمع المدني، والمنظمات الوطنية، ورجال الإصلاح في البلد ... وكأني أرى أن مبلغ كل واحد من هؤلاء أن يثبت من خلال تخليه عن مهمته أن ما حصل فشل الأحزاب و ليس فشله ... مع أن السقف إذا انهار سيسقط على الجميع لا قدر الله ....
كلنا يعلم أن مركز القوة في النظام السياسي بالمفهوم الواسع، لا يقتصر على أجهزة الدولة وسلطاتها المعروفة، ولا على الأحزاب التي تتنافس على احتلال تلك المواقع، وإنما يمتد للسلطات المجتمعية الأخرى في عالم المال والأعمال واتحاد العمال والإعلام وغير ذلك.
لست في وارد تقديم الدروس لهذه الأحزاب ولا للنخبة جميعها فهم يعلموننا كل ذلك، لكنني أخاطبهم مذكرا ومنبها من غفلة قصر النظر في مواقع القدمين، بينما نذر الإعصار تلوح وهو يقترب بسرعة ..... وعندما يأتي الإعصار لن يفرق بينهم سيجرفهم جميعا، وسيجرف معهم مقدرات البلد المادية والبشرية لنشأة مستأنفة لا يعرف متى تكون.
تاريخ أول نشر 2019/12/8