متعة صباحية مع عبد الله العروي، دامت حوالي ساعتين في حوار تلفزي شيق، ليس فيها من فضل للصحفي تقريبا، غير انه ترك للمفكر الاسترسال في كلامه ففاض علينا بما عنده، وهو يتخير الفاظه وجمله، ليضبط معانيه، كما عودنا في كتبه.
يعود تاريخ الحوار لسنة 2020 ..... بقدر ما تمسك فيه العروي بأفكاره، خاصة من الناحية المنهجية، بقدر ما كان حريصا على إزالة اللبس الذي التصق بها، وعلى التخفيض من حدة بعضها .... وقد بدا لي العروي، بعد عمر مديد من الغوص في الحداثة الغربية والدعوة لها، حريصا على ضبط دعوته منهجيا، و عدم جعلها مصادمة للأصالة، للحد الذي جعله يضعهما في مجالين منفصلين لا يبغي احدهما على الآخر .... فبقدر تشبثه بالحداثة كمنهج للترقي السياسي والاجتماعي، يتشبث بنفس القدر بالأصالة التي يعتبرها منهاج الترقي الفردي والأسري .... هذا التفكير يصوغ له العروي مقدمات، ويبني عليه نتائج، تدور كلها حول اعتبار الدين مجاله الفرد والأسرة المنتج الرئيسي للقيم، والسياسة مجالها عالم السياسة والاقتصاد ... لا تعوز العروي الحجج والأمثلة، ولكنه لا يلغي من حسابه وجهة النظر المقابلة التي لها حججها ....
لقد بدا العروي في حواره حريصا على التنسيب وعلى عدم الإطلاق .... كما بدا حريصا على التمييز بين نقده للتراث وبين الاعتراف بقيمته، بل إنه صرح انه بعدما تعمق في الفكر الغربي وقضى فيه السنوات الطوال، رجع للتراث فوجد فيه عمقا وقوة لا تقل عما وجده هناك .... وذكر انه كان يقول لعلالة الفاسي وعبد الله كنون (وهما علمين فكريين مغربيين بارزين من خريجي القرويبن ) وهما يحاورانه وربما يحذرانه : " لا تخشوا .... سأعود" .... وقد عاد .... وبهذه المناسبة، لاحظت ان كل من غاص في الفكر الغربي بعمق وثقة في النفس من العرب والمسلمين عاد ... بل عاد أعمق ... والأمثلة كثيرة ... السنهوري، مالك بن نبي،المسيري، هشام جعيط، محمد كشكار ... هذه مجرد أمثلة تحضرني الآن.
لقد كانت علاقتي بالعروي من خلال كتبه الاقرب إلى العلمية والأكاديمية وهما مجمل تاريخ المغرب ومفهوم التاريخ ... و قد تعلمت منهما أكثر مما تعلمت من الدروس التي تلقيتها أمام أساتذة يعيدون ما حبروا منذ سنين، وكأن الزمن وقف منذ حرروا درسهم الأول للطلاب.
كنت أعيد قراءة الفصل أو الفقرة مرات ... خاصة كتاب مفهوم التاريخ .... تعجبني في العروي منهجيته ودقة الفاظه وسلاسة جمله رغم قوة معانيها ... كما يعجبني اعتداده بنفسه وتعامله مع من سبقه من المفكرين غربيين ومسلمين تعامل الند للند على نحو المقولة الشهيرة : هم رجال ونحن رجال.
عندما صدر كتابه: السنة والاصلاح ( الذي اصلح عنوانه في الحوار إلى : سنة وإصلاح ) اشتريته وقراته على الفور ولاحظت فيه العروي الذي حزم حقائب العودة ... وقد تأكد لي ذلك في تقديمه للكتاب في ندوة في خزانة المملكة المغربية التي كان لي الحظ السعيد بحضورها.
العروي الذي تأثر بابن خلدون في صباه من خلال مشاهدة والده يطالع بدون انقطاع مقدمته، والذي حاول تجاهله وتعويضه بمكيافيل في شبابه، عاد إليه في كهولته، وارتبط به بعد ذلك ليجد عنده ولا زال راهنية التفكير واستمرار العطاء ... هل سيكون امتدادا له وحلقة أخرى من حلقات "النبوغ المغربي" ؟