كتاب "عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الآعجمية في المشرق الاسلامي" من تأليف الدكتور ناجي معروف، كتاب طريف ومهم، تصدى فيه الكاتب لدحض مسلمة غلبت في اعتقاد العلماء والعامة منذ أطلقها ابن خلدون في مقدمته، حيث يقول :" من الغريب أن حملة العلم في الملة الاسلامية أكثرهم من العجم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته".
وقد بين الكاتب في بحث استقصائي دقيق في أمهات كتب التراجم والطبقات والبلدان والسير والتاريخ والمعاجم أن ذلك غير صحيح. ذلك أن أغلب المشهورين في أمهات العلوم الاسلامية، والذين ينسبون لبلدان أعجمية ولكنهم عرب في أنسابهم. وأن إقامتهم وإقامة أسرهم وفروع قبائلهم في خرسان والمرو وهرات وغيرها من بلدان المشرق الاسلامي لا ينفي عنهم نسبهم العربي الصحيح الذي لم تغفله كتب التاريخ والتراجم وإن أثبتت انتسابه للمدن الاسلامية والمناطق التي عاشوا فيها.
ويعرض الكاتب إلى أسباب انتشار النسب للمدن الذي ليس من عادة العرب وإنما هو من عادة العجم، ويقول أن أغلبها أسباب سياسية مرتبطة بالصراعات التي نشأت في التاريخ الاسلامي، والتي جعلت الكثيرين يخفي نسبه في فترة ما مخافة تعرضه للقتل، كما حدث خلال الصراع الأموي العباسي والصراع العلوي العباسي وغيرها من الصراعات المعروفة في تاريخ المسلمين، ثم صارت عادة.
الحقيقة أن العرب قد انتشروا في أصقاع الأرض ولا سيما في مناطق خراسان وبلخ وهرات وأذريبجان وما يعرف الان بإيران وأفغانستان والبلدان الاسلامية التي كانت جزء من الاتحاد السوفياتي ثم شبه القارة الهندية . ولم يذهب العرب كجيش فاتح أو ولاة على تلك المناطق فقط، بل ذهبوا كبطون قبائل واستوطنوها و تناسلوا فيها وكونوا أجيالا متعاقبة .
وإنك لتفاجأ بأن من يكنى بالنيسابوري والمروي والهروي والجرجاني والزمحشري والاصطخري وغيرها من أسماء الأعلام هم عرب النسب أقحاح. وأغلب من اشتهر في علوم الحديث والتفسير واللغة والتاريخ والعلوم الرياضية عرب وليسوا عجما، حتى وإن انتسبوا لمواطن سكناهم أو مرباهم الأعجمية والتي لم تعد في الحقيقة أعجمية إلا من حيث الموقع القديم، لأنها تحولت إلى مدن إسلامية تحتل فيها العربية الموقع الأساس في الخطابة والتعليم والتعامل لا سيما في المجال الإداري والاقتصادي القانوني. أما مشيختهم فهي على الأغب من العلماء ( الشيوخ) العرب.
لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن هناك علماء مسلمون عجم فقد عد الكاتب بعضهم كالغزالي والزمخشري وسيبويه والزجاج والفارابي . هؤلاء الذين " لا يختلفون عن العرب لا في لغتهم ولا في دينهم ولم يكتبوا بغير الخط العربي، ولذلك فهم أحق الناس بالعروبة"
ربما كان ابن خلدون محقا - وهو مؤسس علم الاجتماع- لو انتبه إلى أنه قد تكون للبيئة الجغرافية أثرها في تكوين هؤلاء العلماء النفسي والعقلي ، فهي مناطق الخصب والجمال الطبيعي على عكس أرض الجزيرة التي غلبت عليها القساوة ، وهو نفس ما نلاحظه في الأندلس. لكن يبدو أن وقع الزحف الهلالي على المغرب قد أثر في ابن خلدون وجعله يستسهل الخروج بتلك الخلاصة التي تنافي الواقع الصحيح. ولك أن تلاحظ أن ابن خلدون قد استعمل كلمة " العرب" على الهلاليين الذين زحفوا على المغرب من دون أن يفرق بينهم كقبائل بدوية وبين العرب جملة، بل واشتهر عنه مقولته: " إذا عربت خربت".
لا بل إننا نرى أن ابن خلدون في محاولة تفسيره هاته الظاهرة التي ادعاها قد أسس لمن جاء بعده من المستشرقين و من سار سيرهم في "اتهام" العقل العربي بالقصور الفطري أو بما سمي بالمنزع العاطفي البعيد عن "العقلانية والتفكير المجرد"
قد يستغرب القارئ هذا الاهتمام بهذا الموضوع . لكن انتشار قولة ابن خلدون وما بني عليها من الاحكام ،يجعل من الضروري إزالة هذا الادعاء المنافي للحقيقة، الذي فرضته مكانة ابن خلدون العلمية، حتى أذهلت الناس عن الانتباه لخطئه الذي تصدى له الدكتور ناجي معروف وفنده بتحقيق علمي رصين.
تاريخ أول نشر 2023/12/14