search

عن أي قيم كونية نتحدث؟

جيلي نشأ على المعارضة الجذرية للقيم الليبرالية، وكانت مراجعنا الإيديولوجية برغم اختلافها "الجذري" بين بعضها، تتفق في هذه النقطة، كل من منطلقاته، يستوي في ذلك الماركسيون والاسلاميون والقوميون.

لم تكن تلك المنطلقات دغمائية مغلقة كما دارت عليها الدائرة في ما بعد. بل كانت تقف وراءها عقول مفكرة، وبعضها كان على استيعاب كامل للقيم الليبرالية كما عند بناة الماركسية، وبعضها ينطلق من قواعد فكرية بنتها منظومة عقائدية سادت العالم أكثر من ألف عام كما عند الإسلام.

كانت "ابستيمياء" (Epistme) تلك الفترة مساعدة على ترسيخ تلك الرؤية. ثم شيئا فشيئا مع الهيمنة المتزايدة للنظام الليبرالي وترهل القطب الاشتراكي، بدأت تتسرب القيم الليبرالية إلى حصوننا، ومن مداخل القصور في المنظومات الفكرية التي أفلح الليبراليون في استغلالها. كان ذلك يتم في نفس الوقت مع شراسة المنظومة الليبرالية، وحربها التي لا تتوقف ضد كل عناصر القوة للإيديولوجيات الثلاث. وكانت خطة الإنهاك تتم من خلال توجيه الضربات عن طريق الأنظمة التابعة، ثم الاستدراج للإحتضان في فضاء لا يوحي بالإلحاق، وإنما يغري بمواصلة الرسالة، من خلال فتح الباب لتلك العناصر "المضطهدة" لمواصلة "النضال" في المنظمات الحقوقية الدولية والقطرية تحت شعار "النضال الحقوقي وكونية حقوق الانسان". وانخرط اليسار بعد تلقيه الضربات المتتالية في تلك المنظومات، بل واشتغل على تسويقها بديلا عن الإيديولوجيات الثورية التي انسدت أمامها الآفاق وبدت في نظرهم وكأنها "طيش شباب".

ولأن القيم الليبرالية تقف وراءها عقول كبيرة، فقد انغمس الكثير من المثقفين يتعلمون و"يبيئون" تلك القيم في فضاءاتهم الثقافية. وهكذا حدثت عملية "احتلال" للمجال الثقافي، سيطرت فيه القيم الليبرالية من خلال "الثقافة العالمة"، وأيضا من خلال عملية تبسيطها وجعلها تحتل أيضا مجال "الثقافة الشعبية\العامة"، عن طريق الكتب المبسطة والوسائط الفنية الأخرى من غناء ومسرح وما إلى ذلك.

وتعاضد قمع التنظيمات السرية، مع "المتنفسات" الثقافية، مع زحف السلع الليبرالية مادية ورمزية، ومع الاشتغال على النخب الجامعية والمثقفة بكل وسائل الترغيب والترهيب ... تعاضد كل ذلك على إنهاك الايديولوجيات الثلاث، خاصة بعد حرب الخليج طوال عشريتي التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة.

لا زلت أذكر مقالا للمرحوم محمد عابد الجابري صدر في المستقبل العربي بعيد حرب الخليج الأولى مضمونه : علينا أن نستبدل أساليبنا القديمة القائمة على القطيعة والصراع الجذري بالأسلوب "النقابي" القائم على تكتيك "خذ وطالب".

ومعلوم لدى كل من عاش تلك المرحلة، كيف تولى المال الخليجي استيعاب كل الرموز الثقافية والعلمية في فضاءاته المغرية بالعطاءات المجزية، من الانتداب للتدريس في الجامعات والمؤسسات الثقافية، إلى الكتابة في المجلات والجرائد، إلى إدارة وتأثيث الندوات والمؤتمرات والملتقيات، إلى المساعدة على بعث مؤسسات في بلدانهم أو دعم مؤسساتهم. ولم يكد يسلم من تلك "العطاءات" أحد. وأقصى جهد المثقف "كاسح الرأس" هو أن يختار أقل الوسائل تلويثا لسمعته و تقييدا لحريته.

لم يجد الماركسيون واليسار عناء كبيرا في عملية الاندماج، وما وجد معهم الغرب أيضا صعوبة كبيرة، وتمت عملية استدراجهم بذكاء عن طريق رفاقهم الماركسيين والاشتراكيين في التنظيمات والأحزاب اليسارية الغربية، كما ساعدت استعداداتهم الثقافية (تمكنهم من اللغتين الفرنسية أو الأنجليزية وتحررهم السلوكي) في الاندماج السريع.

لكن الاسلاميين كانت كلفة تحولهم أكثر تعقيدا. فقد كانت وراثتهم للحركات اليسارية والقومية، وتوجه الشباب إليهم بكل ما فيهم من طاقة الرفض والحلم، عائقا كبيرا في القدرة على تحويل وجهتهم، إضافة إلى تصدرهم للمقاومة الثورية طيلة الثمانينات والتسعينات وما بعدها. منذ سنة 79 قادت الإيديولوجية الإسلامية ثورات حقيقية وصراعا مباشرا مع الغرب : الثورة الإيرانية،الثورة السورية، الثورة الأفغانية. ثم تواصلت في الثمانينات وما بعدها: الانتفاضة الفلسطينية، الثورة ( الانقلاب) السودانية، افغانستان(القاعدة)، الثورة العراقية، الشيشان، البوسنة، فضلا عن الصراعات العنيفة في أكثر من بلد عربي: مصر ، ليبيا، تونس.

مع عملية "الإثخان" التي تمت للإيديولوجية الإسلامية في أكثر من موقع، تشكلت مراجعات انطلقت بطيئة تبحث عن "تواؤمات" مع الإيديولوجية الليبرالية تحت شعار "ما عندهم أصله عندنا"، وشعار "جواز الإقتباس". وأغلب الجهد النظري الذي أنجز يدور في هذا الفلك، سواء من المثقفين الاسلاميين أو من المشائخ الاسلاميين. وتصدر لذلك رموز معروفون على الصعيد الحركي والدعوي مثل : الشيخ راشد الغنوشي في كتابه الحريات العامة الذي ينتمي في الحقيقة إلى حقبة الثمانينات، ويعتبر رائد مدرسة المواءمات. والدكتور حسن الترابي وإن كان أكثر قدرة على التأصيل والعمق، ولكنه في كتابه السياسة والحكم بدا موائما أكثر منه مجددا وهو آخر كتبه، وفي نفس الإطار يمكن أن نضع البقية: الشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور محمد عمارة والقائمة طويلة.

ويمكن أن نضيف محاولة المعهد العالمي للفكر الاسلامي ومشروعه "إسلامية المعرفة" الذي بدأ طموحا وبشيئ من العمق مع باعثه الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي.

المحاولات الاسلامية خارج ذلك السياق هي التي تصدر لها بعض المفكرين غير الحركيين وغير السياسيين، سواء من حيث البناء المعرفي المستقل إلى حد ما، كما عند الفيلسوف الصوفي الدكتور طه عبد الرحمن ومن قبله المفكر الجزائري مالك بنبي وبعده أو معه سيد قطب الذي غطت محنته على عطائه الفكري الذي كان واعدا، وسواء على مستوى الرؤية التحليلية التفكيكية المتكاملة للإيديولوجية الغربية بشقيها الماركسي والليبرالي كما عند الدكتور عبد الوهاب المسيري.

ما تجدر الإشارة إليه أن المثقفين الشباب والرموز الفكرية الناشئة خلال سطوة الإثخان العملي للإيديولوجية الإسلامية، انساقوا اتباعا لنفس مسار اليساريين، وأصبحوا كما من سبقهم يحملون على من لا زال متحصنا بالقوالب المثالية والماضوية! وأكثر ما عند من بقي منهم متشبثا باستقلالية ما تجاه الغرب، لا يرى طريقا للنهوض إلا استكمالا أو بناء على ما وصل إليه التنظير الغربي. لذلك تجدهم عموما يضيقون ذرعا بالنقاد العرب الكبار للمنظومة الغربية مثل المسيري ووائل حلاق ومن يسيرون على نهجهما، مع أنهم يقبلوون بالنقد الغربي الذي تقدمه المنظومة الغربية لذاتها عن طريق فلاسفتها ومؤرخيها وفقهائها القانونيين وعلماء الاجتماع والانتروبولوجيا وغيرهم!

ولكن "طوفان الأقصى" الذي انطلق خريف العام الماضي، وارتداداته التي عرت القيم الغربية ولا زالت عملية التعرية مستمرة، مثل زلزالا لكل المسلمات ومنها القيم الكونية المدعاة، زلزالا يعيد التساؤل عن مرتكزاتها وحدودها وعوائقها المضمونية والمنهجية والابستيمولوجية.

ما نتابعه من تهاوي تلك القيم بين عشية وضحاها في عقر دار الغرب، وتحول دوله إلى دول لا تختلف في شيئ عن دول الديكتاتوريات الشرقية، قلب كل الموازين وجعل القيم الكونية مجرد وسيلة إخضاع لبقية العالم، وليس لها من تحقق في الضمير الغربي والفكر الغربي والممارسة الغربية إلا بشكل هامشي تحمله مجموعات محدودة التأثير.

لقد استطاع الغرب بوسائله المختلفة التي ذكرنا بعضها، إغماض أعيننا عن قيمه الكونية التي تكيل بمكيالين، فالحلال عندهم حرام عندنا، تقبله أجهزتهم ومؤسساتهم ودولهم وحتى مفكروهم، بل وترعى من يمارسونه من دول يحتاجون قمعها لاستمرار مصالحهم. لكنهم الآن ليس لهم من مهرب، وليس لنا من تبرير في استمرار تشوفنا لقيم تبين أن نقدنا القديم لها كان صائبا وصحيحا.

إنه زلزال طوفان الأقصى الذي تجاوز غزة وفلسطين ليعم العالم ... وسيكون له ما بعده.


تاريخ أول نشر 6\5\2024